سبب النزول
المعروف بين المفسّرين أنّ هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار يدى ثعلبة بن حاطب، وكان رجلا فقيراً يختلف إلى المسجد دائماً، وكان يصر على النّبي (ص) أن يدعو له بأن يرزقه الله مالا وفيراً، فقال له النّبي (ص): "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" أو ليس الأُولى لك أن تتأسى بنبيّ اللّه (ص) ، وتحيا حياة بسيطة وتقنع بها؟
لكن ثعلبة لم يكف ولم يصرف النظر عن أمله، وأخيراً قال للنّبي (ص): والّذي بعثك بالحق نبيّاً، لئن رزقني الله لأعطين كل الحقوق وأؤدي كل الواجبات، فدعا له النّبي (ص).
فلم يمض زمان - وعلى رواية - حتى توفي ابن عم له، وكان غنيّاً جدّاً، فوصلت إليه ثروة عظيمة، وعلى رواية أُخرى أنّه اشترى غنماً، فلم تزل تتوالد حتى أصبح حفظها ورعايتها في المدينة أمراً غير ممكن، فاضطر أن يخرج إلى أطراف المدينة، فألهته أمواله عن حضور الجماعة، بل وحتى الجمعة.
وبعد مدّة أرسل النّبي (ص) عاملا إِلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه، غير أن هذا الرجل البخيل الذي عاش لتوّه حياة الرفاه امتنع من أداء حقوق اللّه تعالى، ولم يكتف بذلك، بل اعترض على حكم الزّكاة وقال: إنّ حكم الزكاة كالجزية، أي أنّنا أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية، فإذا وجبت علينا الزكاة فأي فرق بيننا وبين غير المسلمين؟
قال هذا في الوقت الذي لم يفهم معنى الجزية ولا معنى الزكاة، أو أنّه فهمه، إلاّ أن حبّ الدنيا وتعلقه بها لم يسمح له ببيان الحقيقة وإظهار الحق، فلمّا بلغ النّبي (ص) ما قاله قال: "يا ويح ثعلبة!
يا ويح ثعلبة"، فنزلت هذه الآيات.
وقد ذكرت أسباب أُخر لنزول هذه الآيات تشابه قصّة ثعلبة مع اختلاف يسير.
ويُفهم من أسباب النزول المذكورة ومن مضمون الآيات أنّ هذا الشخص - أو الأشخاص المذكورين - لم يكونوا من المنافقين في بداية الأمر، لكنّهم لهذه الأعمال ساروا في ركابهم.
التّفسير
المنافقون وقلّة الاستيعاب:
هذه الآيات في الحقيقة تضع إصبعها على صفة أُخرى من صفات المنافقين السيّئة، وهي أنّ هؤلاء إذا مسّهم البؤس والفقر والمسكنة عزفوا على وتر الإِسلام بشكل لا يصدق معه أحد أنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا يوماً من جملة المنافقين، بل ربّما ذمّوا ولاموا الذين يمتلكون الثروات والقدرات الواسعة على عدم استثمارها في خدمة المحرومين ومساعدة المحتاجين!
إلاّ أنّ هؤلاء أنفسهم، إذا تحسّن وضعهم المادي فإنّهم سينسون كل عهودهم ومواثيقهم مع الله والناس، ويغرقون في حبّ الدنيا، وربّما تغيّرت كل معالم شخصياتهم، ويبدؤون بالتفكير بصورة أُخرى وبمنظار مختلف تماماً، وهكذا يؤدي ضعف النفس هذا إلى حبّ الدنيا والبخل وعدم الإِنفاق وبالتالي يكرّس روح النفاق فيهم بشكل يوصد أمامهم أبواب الرجوع إِلى الحق.
فالآية الأُولى تتحدث عن بعض المنافقين الذين عاهدون الله على البذل والعطاء لخدمة عباده إذا ما أعطاهم الله المال الوفير (ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقنّ ولنكونن من الصالحين).
﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ﴾ منعوا حق الله منه ﴿وَتَوَلَّواْ﴾ عن إعطائه ﴿وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ عن الدين هو ثعلبة بن خاطب كان محتاجا فعاهد الله فلما آتاه بخل به.