سبب النزول
وردت عدّة روايات في سبب نزول هذه الآيات في كتب التّفسير والحديث، يستفاد من مجموعها أن النّبي (ص) كان قد صمّم على إِعداد جيش المسلمين لمقابلة العدو - وربّما كان ذلك في غزوة تبوك - وكان محتاجاً لمعونة الناس في هذا الأمر، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إِلى بذل الكثير من أموالهم، سواء كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإِنفاق، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف النّبي (ص).
أمّا الفقراء، كأبي عقيل الأنصاري أو سالم بن عمير الأنصاري، لما لم يجدوا ما ينفقونه لمساعدة جنود الإِسلام، فقد عمدوا إِلى مضاعفة عملهم، واستقاء الماء ليلا، فحصلوا على صاعين من التمر، فادخروا منه صاعاً لمعيشتهم ومعيشة أهليهم، وأتوا بالآخر إِلى النّبي (ص) وقدموه، وشاركوا بهذا الشيء اليسير - الذي لا قيمة له ظاهراً - في هذا المشروع الإِسلامي الكبير.
غير أنّ المنافقين الذين لا همّ لهم إلاّ تتبع ما يمكن التشهير به بدلا من التفكير بالمساهمة الجدية فإنّهم عابوا كلا الفريقين، أمّا الأغنياء فاتهموهم بأنّهم إِنّما ينفقون رياءً وسمعة، وأمّا الفقراء الذين لا يستطيعون إلاّ جهدهم، والذين قدموا اليسير وهو عند الله كثير، فإنهم سخروا منهم بأن جيش الإِسلام هل يحتاج إِلى هذا المقدار اليسير؟
فنزلت هذه الآيات، وهددتهم تهديداً شديداً وحذرتهم من عذاب الله.
التّفسير
خبث المنافقين:
في هذه الآيات إشارة إِلى صفة أُخرى من الصفات العامّة للمنافقين، وهي أنّهم أشخاص لجوجون معاندون وهمهم التماس نقاط ضعف في أعمال الآخرين واحتقار كل عمل مفيد يخدم المجتمع ومحاولة إجهاضه بأساليب شيطانية خبيثة من أجل صرف الناس عن عمل الخير وبذلك يزرعون بذور النفاق وسوء ظن في أذهان المجتمع، وبالتالي إيقاف عجلة الإِبداع وتطور المجتمع وخمول الناس وموت الفكر الخلاّق.
لكن القرآن المجيد ذم هذه الطريقة غير الإنسانية التي يتبعها هؤلاء، وعرّفها للمسلمين لكي لا يقعوا في حبائل مكر المنافقين ومن ناحية أُخرى أراد أن يفهم المنافقون أن سهمهم لا يصيب الهدف في المجتمع الإِسلامي.
ففي البداية يقول: إِنّ هؤلاء (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلاّ جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم).
"يلمزون" مأخوذة من مادة (لَمْز) بمعنى تتبع العيوب والعثرات، و"المطوّعين" مأخوذة من مادة (طوع) على وزن (موج) بمعنى الطاعة، لكن هذه الكلمة تطلق عادة على الأفراد الذين دأبهم عمل الخيرات، وهم يعملون بالمستحبات علاوة على الواجبات.
ويستفاد من الآية أعلاه أنّ المنافقين كانوا يعيبون جماعة، ويسخرون من الأُخرى، ومن المعلوم أن السخرية كانت تنال الذين يقدمون الشيء القليل، والذين لا يجدون غيره ليبذلوه في سبيل الإِسلام، وعلى هذا لابدّ أن يكون لمزهم وطعنهم مرتبطاً بأُولئك الذين قدموا الأموال الطائلة في سبيل خدمة الإِسلام العزيز، فكانوا يرمون الأغنياء بالرياء، ويسخرون من الفقراء لقلّة ما يقدمونه.
﴿الَّذِينَ﴾ بدل من الضمير في سرهم أو ذم مرفوع أو منصوب ﴿يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ﴾ يعيبون المتطوعين ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾ طاقتهم فيتصدقون به قيل لما نزلت آية الصدقة أتى رجل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بمائة وسق تمر فقالوا إنما أعطى رياء وأتاه آخر بصاع تمر فقالوا: إن الله غني عن صاعه ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ فيستهزءون بهم ﴿سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ﴾ جازاهم على سخريتهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.