لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ونلاحظ في الآية التي تليها تأكيداً أشد على مجازاة هؤلاء المنافقين، وتذكر آخر تهديد بتوجيه الكلام وتحويله من الغيبة إِلى الخطاب، والمخاطب هذه المرّة هو النّبي (ص) فقالت: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم). وإنّما لن يغفر الله لهم لأنّهم قد أنكروا الله ورسالة رسوله، واختاروا طريق الكفر، وهذا الإختيار هو الذي أرداهم في هاوية النفاق وعواقبه المشؤومة (ذلك بأنّهم كفروا بالله ورسوله). ومن الواضح أن هداية الله تشمل السائرون في طريق الحق وطلب الحقيقة، أمّا الفساق والمجرمون والمنافقون فإنّ الآية تقول: (والله لا يهدي القوم الفاسقين). ملاحظات: وهنا نلفت الأنظار إِلى عدّة ملاحظات: 1 - إنّ نوع العمل هو المهم لا مقداره، وهذه الحقيقة في القرآن واضحة جلية، فالإسلام لم يستند في أي مورد إلى كثرة العمل ومقداره، بل هو يؤكّد دائماً - وفي كل الموارد - على أن الأساس هو نوع العمل وكيفيته، وهو يولي الإِخلاص في العمل أهمية خاصّة، والآيات المذكورة نموذج واضح لهذا المنطق القرآني. وكما رأينا - أنّ القرآن الكريم مجّد عملا مختصراً لعامل مسلم بقي يعمل إِلى الصباح في استقاء الماء بقلب يغمره عشق الله ومحبته، وينبض بالمسؤولية تجاه مشاكل المجتمع الإسلامي ليحصل على صاع من تمر ويقدّمه لمقاتلي الإِسلام في لحظات حساسة وفي مقابل ذلك نرى القرآن قد ذمّ الذين حقّروا هذا العمل الصغير ظاهراً، الكبير واقعاً، وهدّدهم وأوعدهم بالعذاب الأليم الذي ينتظرهم. ومن هذه الواقعة تتّضح حقيقة أُخرى، وهي أنّ المسلمين في المجتمع الإِسلامي الواقعي السالم يجب أن يحسوا جميعاً بالمسؤولية تجاه المشاكل التي تعترض المجتمع وتظهر فيه، ولا يجب أن ينتظروا الأغنياء والمتمكنين يقوموا وحدهم بحل هذه المشاكل والمصاعب، بل على الضعفاء أيضاً أن يساهموا بما يستطيعون، مهما صغر وقل ما يقدمونه، لأنّ الإسلام يتعلق بالجميع لا بفئة منهم، وعلى هذا، فعلى الجميع أن يسعوا في حفظ الإِسلام ولو ببذل النفوس والدماء، ويعملوا بكل وجودهم من أجل حياته وصيانته. المهم أن كل فرد يجب أن يبذل ما يستطيع، ولا يلتفت إِلى مقدار عطائه، فليس المعيار كثرة العطاء وقلته، بل الإِحساس بالمسؤولية والإِخلاص في العمل. ومن المناسب في هذا المقام أن نطالع حديثاً نقل عن النّبي (ص) ، حيث سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال (ص): "جهد المقل". 2 - إِنّ الصفة التي ذكرتها الآيات السابقة كسائر صفات المنافقين الأُخرى لا تختص بمنافقي عصر النبوة، بل هي مشتركة بين منافقي كل العصور والأزمنة، فإنّ هؤلاء يسعون بسوء ظنهم ودناءة سريرتهم أن يقللوا من أهمية أعمال الخير بأساليب مختلفة، وإماتة الحوافز الخيّرة في الناس والسخرية والإِستهزاء، والإستهانة بأعمال الفقراء المخلصة والخالية من كل شائبة، وتحطيم شخصية هؤلاء، كل ذلك من أجل إطفاء جذوة الخير في المجتمع لينالوا ما يطمحون إليه من الشر والفساد. إلاّ أنّ الواجب على المسلمين الواعين في كل عصر وزمن أن ينتبهوا إلى أهداف المنافقين وخططهم، وأن يشمروا الساعد ويحثوا السير في الإِتجاه المضاد لعمل هؤلاء، فيدعون الناس إِلى عمل الخير، ويوقرون ويعظمون العمل الصغير إِذا صدر من الفقراء، ويُكْبرون فيهم تلك النفوس التي لم تُقصّر عن خدمة الإِسلام حسب طاقتهم، وعن هذا الطريق سيشجعون الصغير والكبير على الإِستمرار في هذه الأعمال، بل ويكثرون منها إِذا قدروا، وكذلك عليهم أن يبينوا لهم خطط المنافقين الهدامة في سبيل تحطيمهم، فإذا عرفها المجتمع فسوف لا تؤثر فيه دعاياهم وسمومهم، وعندها سيستمر في طريق الخير وخدمة الدين الحنيف وتثبيت هذه العقيدة التي اختارها. 3 - ليس المراد من جملة (سخر الله منهم) أنّ الله سيعمل أعمالا تشابه أعمالهم، بل المراد - كما قاله المفسّرون - أنّ الله سبحانه تعالى سيجازيهم على ما عملوا من الأعمال السيئة، أو أنّه تعالى سيحقرهم كما حقروا عباده وسخروا منهم. 4 - لا شك أنّ عدد السبعين الوارد في الآية يدل على الكثرة لا على نفس العدد، وبعبارة أُخرى: إن معنى الآية، أنّك مهما استغفرت لهؤلاء فلن يغفر الله لهم، تماماً كما يقول شخص لآخر: إذا أصررت وكررت قولك مائة مرّة فلن أقبل منك، ولا يعني هذا أنّه لو كرر قوله مائة مرّة وزاد واحدة فسوف يُقبل قوله، بل المراد أن قوله سوف لن يقبل مطلقاً مهما كرره. إنّ مثل هذا التعبير يفيد تأكيد المراد، ولهذا فقد ذكر هذا الموضوع بنفسه في الآية (رقم 6) من سورة المنافقين، وقد نفي نفياً مطلقاً، حيث تقول الآية: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم). والدليل الآخر على هذا الكلام، العلة التي ذكرت في آخر الآية، وهي: (ذلك بأنّهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) وهي توضح أنّ الإستغفار لأمثال هؤلاء مهما كثر وعظم فإنّه سوف لا ينجيهم، ولا يمكن أن يكون سبباً في خلاصهم ممّا ينتظرهم. العجيب في الأمر أنّ عدّة روايات نقلت من مصادر أهل السنة، ورد فيها أن النّبي (ص) قال بعد أن نزلت هذه الآية: "لأزيدن في الإِستغفار لهم على سبعين مرّة"! رجاء منه أن يغفر الله لهم، فنزلت: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) (1). وهذه الرّوايات تعني أنّ النّبي (ص) قد فهم من هذه الآية أنّ المراد من السبعين هو العدد بالذات، ولهذا قال: "لأزيدن في الإِستغفار لهم على سبعين مرّة" في الوقت الذي تريد الآية - كما قلنا - أن تقول لنا: إن العدد المذكور ذُكر على وجه الكثرة والمبالغة، وكناية عن النفي المطلق المقترن بالتأكيد، خصوصاً مع ملاحظة العلة التي ذكرت في ذيل الآية التي توضح ما ذكرناه. وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الرّوايات لا يمكن قبولها لأنّها تخالف القرآن، خاصّة وأن أسانيدها غير معتبرة عندنا. التوجيه الوحيد الممكن لهذه الرّوايات - بالرغم من أنّه خلاف الظاهر - هو أن النّبي (ص) كان يقول ذلك قبل نزول الآيات المذكورة، ولما نزلت هذه الآيات كف النّبي (ص) عن الإِستغفار لهؤلاء. ونقلت رواية أُخرى في هذا الموضوع، قد تكون هي الأصل للرّوايات الأُخرى المذكورة، وإنّما اختلفت الرّوايات لأنّها نقلت بالمعنى لا بالنص، وهي أن النّبي (ص) قال: "لو علمت إنّني لو زدت على السبعين مرّة غفر لهم لفعلت"، ومعنى هذا الكلام - خاصه مع ملاحظة (لو) الدالة على الإمتناع - أنّي أعلم أن الله سبحانه لا يغفر لهؤلاء، غير أن قلبي يحرص على هداية عباد اللّه ونجاتهم، بحيث لو عملت - فرضاً - أن الزيادة في الإِستغفار عن السبعين مرّة ستنجيهم لفعلت ذلك. وعلى كل حال، فإن معنى الآيات المذكورة واضح، وكل حديث يخالفها فإمّا أن يوجه بحيث يوافقها أو يطرح جانباً. ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ أي الأمران سواء في عدم نفعهم ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ﴾ قيل أريد بالسبعين المبالغة في الكثرة وعنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفرت لزدت ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ لا يلطف بهم لإصرارهم على كفرهم.