لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
أمّا الآية الأخيرة فقد أشارت إِلى الفئة الثّانية من الأعراب، وهم المؤمنون المخلصون، إذ تقول: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) ولهذا السبب فإنّهم لا يعتبرون الإِنفاق في سبيل الله خسارة أبداً، بل وسيلة للتقرب إِلى الله ودعاء الرّسول (ص) ، لإِيمانهم بالجزاء الحسن والعطاء الجزيل الذي ينتظر المنفقين في سبيل الله: (ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرّسول). هنا يؤيّد الله تعالى ويصدّق هذا النوع من التفكير، ويؤكّد على أنّ هذا الإِنفاق يقرب هؤلاء من الله قطعاً: (ألا إِنّها قربة لهم) ولهذا (سيدخلهم الله في رحمته) وإذا ما صدرت من هؤلاء هفوات وعثرات، فإنّ الله سيغفرها لهم لإيمانهم وأعمالهم الحسنة، فـ (إن الله غفور رحيم). إنّ التأكيدات المتوالية والمكررة التي تلاحظ في هذه الآية تجلب الإِنتباه حقّاً، فإنّ (ألا) و (إِن) يدل كلاهما على التأكيد، ثمّ جملة (سيدخلهم الله في رحمته) خصوصاً مع ملاحظة (في) التي تعني الدخول والغوص في الرحمة الإِلهية، وبعد ذلك الجملة الأخيرة التي تبدأ بـ (إنَّ) وتذكر صفتين من صفات الرحمة وهما (غفور رحيم) كل هذه التأكيدات تبيّن منتهى اللطف والرحمة الإِلهية بهذه الفئة. وربّما كان هذا الإهتمام بهؤلاء لأنّهم رغم حرمانهم من التعليم والتربية، وعدم الفهم الكافي لآيات الله وأحاديث النّبي (ص) ، فإنّهم قبلوا الإِسلام وآمنوا به بكل وجودهم، ورغم قلّة إمكانياتهم المالية - التي يحتمها وضع البادية - فإنّهم لم يمتنعوا عن البذل والإِنفاق في سبيل الله، ولذلك استحقوا كل تقدير واحترام، وأكثر ممّا يستحقه سكان المدينة المتمكنون. ويجب الالتفات إِلى أنّ القرآن قد استعمل (عليهم دائرة السوء) في حق الأعراب المنافقين، التي تدل على إِحاطة التعاسة وسوء العاقبة بهم، أمّا في حق المؤمنين فقد ذكرت عبارة (في رحمته) لتبيّن إِحاطة الرحمة الإِلهية بهؤلاء، فقسم تحيط به الرحمة الإِلهية، والآخر تحيط به الدوائر والمصائب. بحوث وهنا ملاحظات تسترعي الإِنتباه: 1 - التّجمعات الكبيرة يبدو بوضوح - من الآيات المذكورة - مدى الأهمية التي يوليها الإِسلام للمجتمعات الكبيرة، والأماكن المزدحمة بالسكان، والجميل في الأمر أنّ الإِسلام قد نهض وبزغ نوره من محيط متخلف، محيط لا تشم منه رائحة التمدن والتطور، إلاّ أنّه في الوقت نفسه يهتم اهتماماً خاصّاً بالعوامل البناءة التي تنهض بالمجتمع، وتحلّق به في أجواء التطور والرقي، فنراه يقرر أنّ هؤلاء الذين يعيشون في مناطق نائية عن المدينة أكثر تخلفاً من أهل المدن، لأنّهم لا يملكون الوسائل الكافية للتعليم والتربية فتخلفوا، ولهذا نقرأ في نهج البلاغة قول أميرالمؤمنين (ع): "الزموا السواد الأعظم، فإنّ يدالله مع الجماعة" (3). إِلاّ أنّ هذا الكلام لا يعني أن يتجه كل الناس إِلى المدن، ويتركوا القرى - التي هي أساس عمران المدن - تعبث بها يد الخراب، بل يجب السّعي في إيصال علم وتقدم المدينة إِلى القرية، وتقوية أُسس التربية والتعليم وأُصول الدين والوعي ونشرها بين صفوف القرويين. ولا شك أنّ سكان القرى إِذا تُركوا على حالتهم ولم تفتح عليهم نافذة من العلوم المدنية وآيات الكتب السماوية، وتعليمات وتوجيهات النّبي (ص) والهداة الكرام، فسيحل بهم الكفر والنفاق سريعاً ويأخذ منهم مأخذاً عظيماً. إنّ هؤلاء لهم استعداد أكبر لقبول التربية السليمة والتعليم الصحيح لصفاء قلوبهم، وبساطة أفكارهم، وقلّة انتشار المكر والمراوغة التي تعم المدن بينهم. 2 - الأعراب من سكان المدن إِنّ كلمة (الأعرابي) وإِن كانت تعني ساكن البادية، إلاّ أنّها استعملت بمعنى أوسع في الأخبار والرّوايات الإِسلامية، وبتعبير آخر: فإنّ مفهومها الإِسلامي لا يرتبط أو يتحدد بالمنطقة الجغرافية التي يشغلها الأعراب، بل تعبر عن منهجية في التفكير، فإنّ من كان في منآى عن الآداب والسنن والتربية الإِسلامية فهو من الاعراب وإن كان سكان المدن، أمّا سكّان البادية الملتزمون بالآداب والسنن الإِسلامية فليسوا بأعراب. الحديث المشهور المنقول عن الإِمام الصادق (ع): "من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي" (4) دليل قوي وشاهد واضح على الكلام أعلاه. وفي خبر آخر نقرأ: "من الكفر التعرب بعد الهجرة". ونقل أيضاً عن علي (ع) في نهج البلاغة أنّه خاطب جماعة من أصحابه العاصين لأمره فقال: "واعلموه أنّكم صرتم بعد الهجرة أعراباً" (5)في الحديثين أعلاه جعل "التعرب" مقابل "الهجرة"، وإذا لاحظنا أنّ للهجرة أيضاً مفهوماً واسعاً لا يتحدد بالجانب المكاني، بل إِنّ أساسها انتقال الفكر من محور الكفر إِلى محور الإِيمان، اتّضح معنى كون الفرد أعرابياً، أي أنّه يعني الرجوع عن الآداب والسنن الإِسلامية إِلى الآداب والعادات الجاهلية. 3 - نطالع في الآية المذكورة أعلاه الواردة في حق المؤمنين من الأعراب، أنّ هؤلاء يعتبرون إنفاقهم أساس القرب من الله تعالى، خاصّة وأنّ هذه الكلمة قد وردت بصيغة الجمع (قربات) ، وهي توحي أنّ هؤلاء لا يبتغون من إِنفاقهم قربة واحدة، بل قربات. وممّا لا شك فيه أنّ القرب والقربة بالنسبة إِلى الله سبحانه وتعالى لا تعني القرب المكاني، بل القرب المقامي، أي السير إلى الذات المقدسة والكمال المطلق والتعرض لأنوار صفات جماله وجلاله وفي دائرة الفكر والروح. ﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ قيل هم جهينة ومزينة ﴿وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ﴾ سبب تقرب ﴿عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾ وسبب دعائه له إذ من السنة الدعاء للمصدقين ولو بلفظ الصلاة ومعها على غيره الأمنة لأنها منصبه فله التفضل به على غيره ﴿أَلا إِنَّهَا﴾ أي نفقتهم ﴿قُرْبَةٌ لَّهُمْ﴾ عند الله ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ جنته ﴿إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ﴾ لمن أطاعه ﴿رَّحِيمٌ﴾ به.