لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
لهذا نرى أن الآية الثّانية تتطرق لهذا السؤال وتجيب عليه مباشرة لتطمئن القلوب، فقالت: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن أنّه عدوّ لله تبرأ منه). وفي آخر الآية توضيح بأنّ إِبراهيم كان إِنساناً خاضعاً بين يدي الله عزَّوجلّ، وخائفاً من غضبه، وحليماً واسع الصدر، فقالت: (إِن إِبراهيم لأواه حليم). إِنّ هذه الجملة قد تكون بياناً لسبب الوعد الذي قطعه إِبراهيم لآزر بالاستغفار له، لأنّ حلمه وصبره من جهة، وكونه أوّاهاً - والذي يعني كونه رحيماً طبقاً لبعض التفاسير - من جهة أُخرى، كانا يوجبان أن يبذل قصارى جهده في سبيل هداية آزر، حتى وإِن كان بوعده بالإِستغفار له، وطلب المغفرة عن أعماله السابقة. ويحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة دليلا على أنّ إِبراهيم لخضوعه وخشوعه وخوفه من مخالفة أوامر الله سبحانه لم يكن مستعداً لأن يستغفر للمشركين أبداً، بل إِنّ هذا العمل كان مختصاً بزمان كان أمل هداية آزر يعيش في قلبه، ولهذا فإنّه بمجرّد أَن اتّضح أمر عداوته ترك هذا العمل. فإن قيل: من أين علم المسلمون أنّ إِبراهيم قد استغفر لآزر؟ قلنا: إِن آيات سورة التوبة هذه - كما أشرنا في البداية - قد نزلت في أواخر حياة النّبي (ص) ، وقد قرأ المسلمون من قبل في سورة مريم، الآية (47) أن إِبراهيم بقوله: (سأستغفر لك ربّي) كان قد وعد آزر بالإستغفار، ومن المسلّم أن نبي الله إِبراهيم (ع) لا يَعِدُ كذباً، وكلما وعد وفى بوعده. وكذلك كانوا قد قرأوا في الآية (رقم 4) من سورة الممتحنة أنّ إِبراهيم قد قال له: (لأستغفرن لك) وكذلك في الآية (86) من سورة الشعراء، وهي من السور المكية، حيث ورد الإِستغفار صريحاً بقوله: (واغفر لأبي إِنّه كان من الضّالين). ملاحظات 1 - رواية موضوعة! إِنّ الكثير من مفسّري العامّة نقلوا حديثاً موضوعاً عن صحيح البخاري ومسلم وكتب أُخرى عن سعيد بن المسيب عن أبيه، أنّه لما حضرت أبا طالب الوفاة أتى إِليه النّبي (ص) ، وكان عنده أبوجهل وعبدالله بن أبي أمية، فقال له النّبي (ص): "ياعم، قل لا إِله إلاّ الله أحاج لك بها عند الله"، فالتفت أبوجهل وعبدالله بن أبي أمية إِلى أبي طالب وقالوا: أتريد أن تصبو عن دين أبيك عبدالمطلب؟! وكرر النّبي (ص) قوله، إلاّ أنّ أبا جهل وعبدالله منعاه من ذلك. وكان آخر ما قاله أبوطالب: على دين عبدالمطلب، وامتنع عن قول: لا إِله إلاّ الله، فقال النّبي (ص) عندئذ: "سأستغفر لك حتى أنهى عنه" فنزلت الآية: (ماكان للنّبي والذين آمنوا...) (1). إِلاّ أنّ الأدلة والقرائن على كذب ووضع هذا الحديث واضحة، لما يلي: أوّلا: المعروف والمشهور بين المفسّرين والمحدثين أنّ سورة براءة نزلت في السنة التاسعة للهجرة، بل يعتقد البعض أنّها آخر سورة نزلت على النّبي (ص) ، في حين أن المؤرخين ذكروا أن وفاة أبي طالب كانت في مكّة، وقبل هجرة النّبي (ص). ولهذا نرى التخبط والتناقض الصريح الذي وقع فيه بعض المتعصبين كصاحب تفسير المنار، فإنّهم قالوا تارةً: إِنّ هذه الآية نزلت مرّتين! مرّة في مكّة، ومرّة في المدينة في السنة التاسعة للهجرة وظنوا أنّهم لما ادّعوا هذا الدليل رفعوا التناقض الذي سقطوا فيه. وقالوا تارةً أُخرى: إِنّ من الممكن أن تكون هذه الآية نزلت حين وفاة أبي طالب، ثمّ أمر النّبي (ص) بوضعها في سورة التوبة. إلاّ أنّ هذا الإِدعاء كسابقه السابق عار من الدليل. ألم يكن من الأجدر بهم بدل أن يتخطبوا في هذه التوجيهات التي لا اساس لها، أن يترددوا ويشككوا في صحة الرّواية السابقة؟! ثانياً: لا شك في أنّ الله سبحانه وتعالى قد نهى المسلمين في آيات من القرآن عن محبّة المشركين قبل موت أبي طالب، ونحن نعلم أن الإِستغفار من أظهر مصاديق إِبراز المحبّة والصداقة، فكيف يمكن والحال هذه أن يرحل أبوطالب من الدنيا ويقسم النّبي (ص) بأنّه سيستغفر له حتى ينهاه الله؟! العجيب أنّ الفخر الرازي، الذي عرف بتعصبه في أمثال هذه المسائل، لما لم يستطع إِنكار أنّ هذه الآية قد نزلت - كبقية سورة التوبة - في أواخر عمر النّبي (ص) عمد إِلى توجيه محير وعجيب، وهو أن النّبي (ص) استمر بعد وفاة أبي طالب في الإِستغفار له حتى نزلت هذه الآية ونهته عن الإِستغفار! ثمّ يقول: ما المانع من أن يكون هذا الأمر - أي الإِستغفار - مجازاً للنّبي (ص) والمؤمنين إِلى ذلك الوقت؟! إِنّ الفخر الرازي إِذا حرر نفسه من قيود التعصب، سيلتفت إِلى عدم إِمكان أن يستغفر النّبي (ص) لفرد مشرك طوال هذه المدّة، في الوقت الذي كانت آيات كثيرة من القرآن الكريم قد نزلت إِلى ذلك الزمان تدين وتشجب أي نوع من مودة المشركين ومحبتهم (2). ثالثاً: إِنّ الشخص الوحيد الذي روى هذه الرّواية هو "سعيد بن المسيب"، وبغضه وعداؤه لأميرالمؤمنين علي (ع) أشهر من نار على علم، وعلى هذا لايمكن الإِعتماد على روايته في شأن علي (ع) أو أبيه أو أبنائه مطلقاً. لقد نقل "العلاّمة الأميني (قدس سره) " - بعد أن أشار إِلى الموضوع أعلاه - كلاماً عن "الواقدي" يستحق التوقف عنده، حيث يقول: إِن سعيد بن المسيب مر بجنازة الإِمام السجاد علي بن الحسين (ع) ولم يصل عليها، واعتذر بعذر واه، إلاّ أنّه على قول ابن حزم - لما سئل: أتصلي خلف الحجاج أم لا؟ قال: نحن نصلّي خلف من هو أسوأ من الحجاج! رابعاً: كما قلنا في الجزء الخامس من هذا التّفسير، فإنّ ممّا لا شك فيه أنّ أبا طالب قد آمن بالنّبي (ص) ، وبِيّنا الأدلة الواضحة على ذلك، وأثبتنا بأنّ ما قيل في عدم إِيمان أبي طالب هو تهمة كبيرة. وقد صرّح بذلك كل علماء الشيعة، وجماعة من علماء السنة كابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) والقسطلاني في (إِرشاد الساري) وزيني دحلان في (حاشية السيرة الحلبية). وقلنا أن المحقق المدقق إِذا لاحظ المد السياسي المغرض الذي تزعمه حكام بني أُمية ضد علي (ع) ، استطاع أن يقدر بأن كل من ارتبط بأميرالمؤمنين عليه السلام لم يبق بمنأى عن التعرض المغرض. في الحقيقة، أنّ أباطالب لم يكن له ذنب سوى أنّه أبو علي بن أبي طالب (ع) إِمام المسلمين، وقائدهم العظيم! ألم يتهموا أباذر، ذلك المجاهد الإِسلامي الكبير لحبّه وعشقه لعلي (ع) ، وجهاده ضد مذهب عثمان ؟! (لمزيد الإِطلاع على إِيمان أبي طالب الذي كان حامياً لرسول الله (ص) في جميع مراحل حياته، ومدافعاً عنه، ومطيعاً لأوامره، راجع الآية (25) و (26) من سورة الانعام في المجلد الرّابع من تفسيرنا هذا). 2 - لماذا وعد إِبراهيم آزر بالإِستغفار؟ وهنا يطرح سؤال آخر، وهو: كيف وعد إِبراهيم عمّه آزر بالإِستغفار، وحسب ظاهر هذه الآية وآيات القرآن الأُخرى، فإنّه قد وفى بوعده، مع العلم أنّه لم يؤمن أبداً، وكان من المشركين وعبدة الأصنام الى آخر حياته، والإِستغفار لمثل هؤلاء ممنوع؟ وللإِجابة على هذا السؤال ينبغي الإِنتباه أوّلا إِلى أنّه يستفاد من الآية - بوضوح - أنّ إِبراهيم كان يأمل أن يجذب آزر إِلى الإِيمان والتوحيد عن هذا الطريق، وكان استغفاره في الحقيقة هو: اللّهم اهده، وتجاوز عن ذنوبه السابقة. لكن لما ارتحل آزر من هذه الدنيا وهو مشرك - وأصبح من المحتم عند إِبراهيم أنّه مات وهو معاد لله، ولم يبق سبيل لهدايته - ترك استغفاره لآزر. وعلى هذا فإنّ المسلمين أيضاً يستطيعون أن يستغفروا لأصدقائهم وأقربائهم المشركين ماداموا على قيد الحياة، وكان هناك أمل في هدايتهم، بمعنى طلب الهداية والمغفرة من الله سبحانه لهؤلاء، إلاّ أنّهم إِذا ماتوا وهم كفار فلا مجال للإِستغفار بعد ذلك. أمّا ماورد في بعض الرّوايات من أنّ الإِمام الصادق (ع) ذكر أنّ إِبراهيم (ع) كان قد وعد آزر بالإِستغفار ان هو أسلم - لا أنّه يستغفر له قبل إِسلامه، فلمّا تبيّن له أنّه عدو لله تنفر منه وابتعد عنه، وعلى هذا فإنّ وعد إِبراهيم كان مشروطاً، فلمّا لم يتحقق الشرط لم يستغفر له أبداً، فإنّ هذه الرّواية إِضافة إِلى أنّها مرسلة وضعيفة، فإنّها تخالف ظاهر أو صريح الآيات القرآنية، لأنّ ظاهر الآية التي نبحثها أن إِبراهيم قد استغفر، وصريح الآية (86) من سورة الشعراء أن إِبراهيم قد طلب المغفرة له، حيث يقول: (واغفر لأبي إِنّه كان من الضّالين). والشاهد الآخر ما ورد عن ابن عباس أنّه قال: إِن إِبراهيم قد استغفر مراراً لآزر مادام حياً، فلمّا مات على كفره وتبيّن عداؤه لدين الحق، امتنع عن هذا العمل. ولما كان فريق من المسلمين راغبين في أن يستغفروا للمحسنين الذين ماتوا وهم مشركون، فقد نهاهم القرآن بصراحة عن ذلك، وصرّح بأن وضع إِبراهيم يختلف تماماً عن وضعهم، فإنّه كان يستغفر لآزر في حياته رجاء هدايته وإِيمانه، لا بعد موته. 3 - ضرورة قطع كل رابطة بالأعداء إِنّ هذه الآية ليست الوحيدة التي تتحدث عن قطع كل رابطة بالمشركين، بل يستخلص من عدّة آيات في القرآن الكريم أن كل ارتباط وتضامن وعلاقة، العائلية منها وغيرها، يجب أن تخضع لإِطار العلاقات العقائدية، ويجب أن يحكم الانتماء الى الله ومحاربة كل أشكال الشرك والوثنية كل اشكاليات الترابط بين المسلمين. لأنّ هذا الإِرتباط هو الأساس والحاكم على كل مقدراتهم الإِجتماعية، ولا تستطيع العلاقات والروابط السطحية والفوقية أن تنفيه. إِنّ هذا درس كبير للأمس واليوم، وكل الأعصار والقرون. ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ﴾ أي عمه أو جده لأمه آزر ﴿إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾ وعده أن يسلم فاستغفر له أو قال لأبيه إن لم تعبد الأصنام أستغفر لك ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ﴾ بالوحي أنه لن يؤمن أو بموته مشركا ﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ ولم يستغفر له ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ﴾ كثير الدعاء والبكاء أو رحيم بعباد الله ﴿حَلِيمٌ﴾ صبور على الأذى