لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير كونوا مع الصّادقين: في الآيات السابقة كان الحديث حول جماعة من المتخلفين الذين نقضوا عهدهم مع الله ورسوله، وأظهروا عملياً تكذيبهم للإِيمان بالله واليوم الآخر، ورأينا كيف أنّ المسلمين قد أرجعوهم إِلى حظيرة الإِيمان بمقاطعتهم، ونبّهوههم على خطئهم. أمّا هذه الآية فقد أشارت إِلى النقطة المقابلة لهؤلاء، فهي تأمر بتحكيم الروابط مع الصادقين الذين حافظوا على عهدهم وثبتوا عليه. في البداية تقول الآية: (يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله) ولأجل أن يستطيعوا سلوك طريق التقوى المليء بالمنعطفات والاخطار بدون اشتباه وانحراف أضافت: (وكونوا مع الصادقين). وقد إحتمل المفسّرون احتمالات مختلفة في المقصود من الصادقين، ومن هم؟ إِلاّ أنّنا إِذا أردنا اختصار الطريق، يجب أن نرجع إِلى القرآن الكريم نفسه الذي فسّر معنى الصادقين في آيات متعددة. فنقرأ في سورة البقرة، الآية (177): (ليس البرّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيين وأتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إِذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أُولئك الذين صدقوا وأُولئك هم المتقون). فنحن نرى في هذه الآية أنّها بعد نهي المسلمين عن البحث والمناقشة حول مسألة تغيير القبلة، تفسر لهم حقيقة العمل الصالح والبر بأنّه الإِيمان بالله ويوم القيامة والملائكة والكتب السماوية والأنبياء، ثمّ الإِنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين والمحرومين، وإِقامة الصلاة، وإِيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والإِستقامة والصمود أمام المشاكل حين الجهاد، وبعد ذكر كل هذه الصفات تقول: إِنّ الذين يمتلكون هذه الصفات هم الصادقون وهم المتقون. وعلى هذا، فإنّ الصادق هو الذي يؤمن بكل المقدسات، ثمّ يعمل بموجبها في جميع النواحي، وفي الآية (15) من سورة الحجرات نقراً: (إِنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أُولئك هم الصادقون) فإنّ هذه الآية أيضاً تُعرِّف الصدق بأنّه مجموع الإِيمان والعمل الذي لا تشوبه أية شائبة من التردد أو المخالفة. ونقراً في الآية (رقم 8) من سورة الحشر: (للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أُولئك هم الصادقون) فهذه الآية عَرّفت الصادقين بأنّهم المؤمنون المحرومون الذين استقاموا وثبتوا رغم كل المشاكل، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، ولم يكن لهم هدف وغاية سوى رضى الله ونصرة رسوله (ص). من مجموع هذه الآيات نحصل على نتيجة، وهي أنّ الصادقين هم الذين يؤدون تعهداتهم أمام الإِيمان بالله على أحسن وجه دون أي تردد أو تماهل ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات، بل يُثبتون صدق إِيمانهم بأنواع الفداء والتضحية. ولا شك أنّ لهذه الصفات درجات، فقد يكون البعض في قمتها، وهم الذين نسمّيهم بالمعصومين، والبعض في درجات أقل وأدنى منها. هل المراد من الصّادقين هم المعصومون فقط؟ بالرغم من أنّ مفهوم الصادقين - كما ذكرنا سابقاً - مفهوم واسع، إلاّ أنّ المستفاد من الرّوايات الكثيرة أنّ المراد من هذا المفهوم هنا هم المعصومون فقط. يروي سليم بن قيس الهلالي: إِنّ أميرالمؤمنين (ع) كان له يوماً كلام مع جمع من المسلمين، ومن جملة ما قال: "فأنشدكم الله أتعلمون أن الله أنزل: (يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). فقال سلمان: يا رسول الله أعامّة هي أم خاصّة؟ قال: أمّا المأمورون فالعامّة من المؤمنين أُمروا بذلك، وأمّا الصادقون فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إِلى يوم القيامة"؟ قالوا: اللّهم نعم (1). ويروي نافع عن عبدالله بن عمر: إِنّ الله سبحانه أمر أوّلا المسلمين أن يخافوا الله ثمّ قال: (كونوا مع الصّادقين) يعني مع محمّد وأهل بيته (2). وبالرغم من أنّ بعض مفسّري أهل السنة - كصاحب المنار - قد نقلوا ذيل الرّواية أعلاه هكذا: مع محمّد وأصحابه، ولكن مع ملاحظة أن مفهوم الآية عام وشامل لكل زمان، وصحابة النّبي (ص) كانوا في زمن خاص، تبيّن لنا أنّ العبارة التي وردت في كتب الشيعة عن عبدالله بن عمر هي الأصح. ونقل صاحب تفسير البرهان نظير هذا المضمون عن طرق العامّة، وقال: إِنّ موفق بن أحمد بإسناده عن ابن عباس، يروي في ذيل هذه الآية: هو علي بن أبي طالب. ثمّ يقول: أورد ذلك أيضاً عبدالرزاق في كتاب رموز الكنوز (3). أمّا المطلب الأهم، فهو أنّ الآية تأمر أوّلا بالتقوى، ثمّ بالكون مع الصادقين، فلو أنّ مفهوم الصادقين في الآية عامّاً وشاملا لكل المؤمنين الحقيقيين المستقيمين، لكان اللازم أن يقال: وكونوا من الصادقين، لا مع الصادقين. (فتأمل جيداً). إِنّ هذه بذاتها قرينة واضحة على أنّ (الصّادقين) في الآية هم فئة خاصّة. ومن جهة أُخرى، فليس المراد من الكون معهم أن يكون الإِنسان مجالساً ومعاشراً لهم، بل المراد قطعاً هو اتباعهم والسير في خطاهم. إِذا كان الشخص غير معصوم هل يمكن صدور أمر بدون قيد أو شرط باتباعه والسير في ركابه؟ أليس هذا بنفسه دليلا على أن هذه الفئة والمجموعة هم المعصومون؟ وعلى هذا، فإنّ ما استفدناه من الرّوايات يمكن استفادته من الآية إِذا دققنا النظر فيها. إِن الملفت للنظر هنا، أنّ المفسّر المعروف الفخر الرازي، المعروف بتعصبه وتشكيكه، قد قبل هذه الحقيقة - وإِن كان أغلب مفسّري السنة سكتوا عنها عند مرورهم بهذه الآية - ويقول: إِنّ الله قد أمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين، وعلى هذا فإنّ الآية تدل على أن من يجوز الخطأ عليهم يجب عليهم الإِقتداء بالمعصوم حتى يبقوا مصونين عن الخطأ في ظلّه وعصمته، وسيكون هذا الأمر في كل زمان، ولا نملك أي دليل على اختصاص ذلك بعصر النّبي (ص). إِلاّ أنّه يضيف بعد ذلك: إِنّنا نقبل أنّ مفهوم الآية هو هذا، ويجب أن يوجد معصوم في كل وقت، إلاّ أنّنا نرى أن هذا المعصوم هو جميع الأُمّة، لا أنّه فرد واحد! وبتعبير آخر: إِنّ هذه الآية دليل على حجية إِجماع المؤمنين، وعدم خطأ مجموع الأُمّة (4). وبهذا الترتيب، فإنّ الرازي قد طوى نصف الطريق جيداً، إلاّ أنّه زاغ في النصف الثّاني، ولو أنّه التفت إِلى النكتة التي وردت في متن الآية لأكمل النصف الثّاني أيضاً بسلامة، وهي أنّه لو كان المقصود من الصادقين مجموع الأُمّة، فإنّ الأتباع سيكونون جزء من ذلك المجموع وهو في الواقع اتباع الجزء للقدوة والإِمام، وسيعني ذلك اتحاد التابع والمتبوع، في حين نرى أنّ ظاهر الآية هو أن القدوة غير المقتدي، والتابعين غير المتبوعين، بل يفترقون عنهم. (دققوا ذلك). ونتيجة ذلك: إِنّ هذه الآية من الآيات التي تدل على وجود المعصوم في كل عصر وزمان. ويبقى سؤال أخير، وهو أنّ الصادقين جمع، وهل يجب على هذا الأساس أن يكون في كل زمان معصومون متعددون؟ والجواب على هذا السؤال واضح أيضاً، وهو أنّ الخطاب ليس مختصاً بأهل زمن وعصر معين، بل إِنّ الآية تخاطب كل العصور والقرون، ومن البديهي أن المخاطبين على مر العصور لا بد وأن سيكونوا مع جمع من الصادقين. وبتعبير آخر، فإنّه لما كان في كل زمان معصوم، فإنّنا إِذا أخذنا كل القرون والعصور بنظر الإِعتبار، فإنّ الكلام سيكون عن جمع المعصومين لا عن شخص واحد. والشاهد الناطق على هذا الموضوع هو أنّه لا يوجد في زمن النّبي (ص) أحد تجب طاعته غير شخص النّبي (ص) وفي الوقت نفسه فإنّ من المسلّم أنّ الآية تشمل المؤمنين في زمانه، وعلى هذا الأساس سنفهم أن الجمع الوارد في الآية لا يراد منه الجمع في زمان واحد، بل هو في مجموعة الأزمنة. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ﴾ في معاصيه ﴿وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ في الإيمان والقول والعمل، وعن ابن عباس مع علي وأصحابه، وعنهم (عليهم السلام) مع آل محمد.