وهذا على خلاف المنافقين ومرضى القلوب من الجهل والحسد والعناد (وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً الى رجسهم).
وفي النهاية، فإنّ هؤلاء بعنادهم يغادرون الدنيا على الكفر: (وماتوا وهم كافرون).
ملاحظات
وهنا ملاحظات ينبغي التنبه لها:
1 - إِنّ القرآن الكريم يؤكّد من خلال هاتين الآيتين على حقيقة، وهي أنّ وجود البرامج والقوانين الحياتية لا تكفي بمفردها لسعادة فرد أو جماعة، بل يجب أن يؤخذ بنظر الإِعتبار وجود الأرضية المهيئة والإِستعداد للتلقي كشرط أساسي.
إِنّ آيات القرآن كقطرات المطر تصيب الحديقة الغناء والأرض السبخة، فالذين ينظرون إِلى الحقائق بروح التسليم والإِيمان والعشق، يتعلمون من كل سورة - بل من كل آية - درساً يزيد في إِيمانهم، ويفعّل سمات الإِنسانية لديهم.
أمّا الذين ينظرون إِلى هذه الآيات من خلف حجب العناد والكبر والنفاق، فإِنّهم لايستفيدون منها، بل وتزيد في كفرهم ورجسهم.
وبتعبير أخر فإِنّهم يعصون كل أمر فيها ليرتكبوا بذلك معصية جديدة تضاف إِلى معاصيهم، ويواجهون كل قانون بالتمرد عليه، ويصرون على رفض كل حقيقة، وهذا هو سبب تراكم المعاصي والآثام في وجودهم، وبالتالي تتجذّر هذه الصفات الرذيلة في كيانهم، وفي النهاية اغلاق كل طرق الرجوع بوجوههم وموتهم على الكفر.
وبتعبير آخر فإِنّ (فاعلية الفاعل) في كل برنامج تربوي لا تكفي لوحدها، بل إِنّ روح التقبل و (قابلية القابل) شرط اساسي أيضاً.
2 - "الرجس" في اللغة بمعنى الخبيث النجس السيء، وعلى قول الراغب في كتاب المفردات، فإِنّ هذا الخبث والتلوث أربعة أنواع: فتارةً يُنظر إِليه من جهة الغريزة والطبع، وأُخرى من جهة الفكر والعقل، وثالثة من جهة الشرع، ورابعة من كل الجهات.
ولاشك أنّ السوء والخبث الناشىء من النفاق واللجاجة والتعنت أمام الحق سيولد نوعاً من الشر والخبث الباطني والمعنوي بحيث يبدو أثره بوضوح في النهاية على الإِنسان وكلامه وسلوكه.
3 - إِنّ جملة (وهم يستبشرون) مع ملاحظة أنّ أصل كلمة (بشارة) تعني السرور والفرح الذي تظهر آثاره على وجه الإِنسان، تبيّن مدى تأثير الآيات القرآنية التربوي في المؤمنين، ووضوح هذا التأثير بحيث تبدو علاماته فوراً على وجوههم.
4 - لقد اعتبرت هذه الآيات "المرض القلبي" نتيجة حتمية وملازمة للنفاق والصفات القبيحة.
وكما قلنا سابقاً فإنّ القلب في مثل هذه الموارد يعني الروح والعقل، ومرض القلب في هذه المواضع بمعنى الرذائل الأخلاقية والإِنحرافات النفسية، وهذا التعبير يوضح أنّ الإِنسان إِذا كان يتمتع بروح سالمة وطاهرة فلا أثر في وجوده لهذه الصفات الذميمة، ومثل هذه الأخلاق السيئة كالمرض الجسمي خلاف طبيعة الإِنسان، وعلى هذا فإنّ التلوّث بهذه الصفات دليل على الإِنحراف عن المسير الأصلي والطبيعي، ودليل على المرض الروحي والنفسي (2).
5 - إِنّ هذه الآيات تعطي درساً كبيراً لكل المسلمين، لأنّها تبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ المسلمين الأوائل كانوا يشعرون بروح جديدة مع نزول كل سورة من القرآن، ويتربون تربية جديدة تصل إِلى درجة بحيث تبدو آثارها بسرعة على محياهم، بينما نرى اليوم أشخاصاً، ظاهرهم أنّهم مسلمون، لا تؤثر فيهم السورة إذا قرأوها، بل إن ختم القرآن كله لا يترك أدنى أثر عليهم!
هل أنّ سور القرآن فقدت تأثيرها؟
أم أن تسمم الأفكار، ومرض القلوب، ووجود الحجب المتراكمة من أعمالنا السيئة هي التي أدت إِلى خلق حالة عدم الإِهتمام، وجعلت على القلوب أكنة لايمكن اختراقها؟
يجب علينا أن نلتجىء إِلى الله من حالنا هذا، ونسأله أن يمن علينا بقلوب كقلوب المسلمين الأوائل.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ كفرا بها ضموه إلى كفرهم ﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ رسخوا في الكفر حتى ماتوا عليه.