أمّا الآية الثّانية فإِنّها تبيّن - ولمناسبة تلك الإِشارة التي مرّت إِلى القرآن والوحي الإِلهي في الآية السابقة - واحداً من إِشكالات المشركين على النّبي (ص) ، وهو نفس الإِشكال الذي جاء في القرآن بصورة متكررة.
وهذا التكرار يبيّن أن هذا الإِشكال من إِشكالات المشركين المتكررة، وهو: لماذا نزل الوحي الإِلهي من الله على إِنسان مثلهم؟
ولماذا لم تتعهد الملائكة بمسؤولية هذه الرسالة الكبيرة؟
فيجيب القرآن عن هذه الأسئلة فيقول: (أكان للناس عجباً أن أوحينا إِلى رجل منهم).
الواقع أنّ كلمة "منهم" تضمنت الجواب على سؤالهم، أي إِنّ القائد والمرشد إِذا كان من جنس أتباعه، ويعلم أمراضهم، و مطلع على احتياجاتهم، فلا مجال للتعجب، بل العجب أن يكون القائد من غير جنسهم، بحيث يعجز عن قيادتهم نتيجة عدم اطلاعه على وضعهم.
ثمّ تشير إِلى محتوى الوحي الإِلهي.
وتلخصه في أمرين:
الأوّل: إِنّ الوحي الذي أرسلناه، مهمته إِنذار الناس وتحذيرهم من عواقب الكفر والمعاصى: (أن أنذر الناس).
والثّاني: هو (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربّهم).
وفي الوقت الذي يوجد بحث بين المفسّرين في المقصود من "قدم الصدق"، إلاّ أنّ أحد التفاسير الثلاثة المذكورة هنا - أو كل الثلاثة - قابل للقبول بصورة علمية.
فالتّفسير الأوّل: إِن "قدم الصدق" هذا إِشارة إِلى أن الإِيمان له بـ "سابقة فطرية"، وإِنّ المؤمنين عندما يظهرون إِيمانهم فهم في الحقيقة يصدقون فطرتهم - لأنّ أحد معاني القدم هو السابقة - كما يقولون: لفلان قدم في الإِسلام، أو قدم في الحرب، أي إِنّ له سبقاً في الإِسلام أو الحرب.
والثّاني: إِنّه إِشارة إِلى مسألة المعاد ونعيم الآخرة، لأنّ أحد معاني القدم هو المقام والمنزلة، وهو يناسب كون الإنسان يرد إِلى منزله ومقامه برجله، وهذا التّفسير يعني أنّ للمؤمنين مقاماً ومنزلة ثابتة وحتمية عند الله سبحانه، وأن أي قوّة لا تستطيع تغييرها وجعلها في شكل آخر.
أمّا التّفسير الثّالث فهو أن القدم بمعنى القدوة والزعيم والقائد، أي إِننا أرسلنا للمؤمنين قائداً ومرشداً صادقاً.
لقد وردت عدّة روايات عن طريق الشيعة والسنة لهذه الآية تفسر قدم الصدق بأنّه النّبي (ص) أو ولاية علي (ع) وتؤيد هذا المعنى (1).
وكما قلنا فإنّ من الممكن أن تكون البشارة بكل هذه الأُمور هي المرادة من التعبير أعلاه.
وتنهي الآية حديثها بذكر اتهام طالما كرّره المشركون واتهموا به النّبي (ص) ، فقالت: (قال الكافرون إنّ هذا لساحر مبين).
إنّ كلمة (إن) و"لام" التأكيد وصفة "المبين"، كلها دلائل على مدى تأكيد أُولئك الكفار على هذه التهمة، وعبروا بـ (هذا) لتصغير مقام النّبي (ص) والتقليل من أهميته.
أمّا لماذا اتهموا النّبي (ص) بالسحر؟
فجوابه واضح، ذلك أنّهم لم يكونوا يمتلكون الجواب المقنع مقابل إِعجاز كلامه وشريعته وقوانينه العادلة الرفيعة.
فلم يكن لهم سبيل إلاّ أن يفسروا هذه الظواهر الخارقة للعادة بأنّها سحر، وبهذا فقط يمكنهم ابقاء البسطاء تحت سيطرة الجهل وعدم الإِطلاع على الواقع.
إِنّ أمثال هذه التعبيرات التي كانت تصدر من ناحية الأعداء ضد النّبي (ص) دليل بنفسها على أنّ النّبي (ص) كان يقوم بأعمال خارقة للعادة، بحيث تجذب القلوب والأفكار نحوها، خاصّة وأن التأكيد على السحر في شأن القرآن المجيد هو بنفسه دليل قاطع وقوي على الجاذبية الخارقة الموجودة في هذا الكتاب السماوي، ولأجل خداع الناس فإِنّهم كانوا يجعلونه في إِطار السحر.
وسنتحدث عن هذا الموضوع في الآيات المناسبة إِن شاء الله تعالى.
﴿أَكَانَ﴾ إنكار ﴿لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا﴾ أي إيحاؤنا ﴿إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾ محمد قيل قالوا إن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، وقيل تعجبوا من إرساله بشرا ﴿أَنْ﴾ مفسرة أو مخففة ﴿أَنذِرِ النَّاسَ﴾ خوفهم بالعذاب ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ﴾ بأن ﴿لَهُمْ قَدَمَ﴾ سابقة ﴿صِدْقٍ﴾ أي منزلة رفيعة بما قدموا أو شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا﴾ القرآن المتضمن ذاك ﴿لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾ بين وقرىء لسحر.