ولكن ما أن أنجاهم الله وأوصلهم إِلى شاطىء النجاة بدؤوا بالظلّم والجور: (فلمّا أنجاهم إِذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) لكن يجب أن تعلموا - أيّها الناس - إِنّ نتيجة ظلمكم ستصيبكم أنتم (يا أيّها الناس إِنّما بغيكم على أنفسكم) وآخر عمل تستطيعون عمله هو أن تتمتعوا قليلا في هذه الدنيا: (متاع الحياة الدنيا (2) ثمّ إِلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون).
ملاحظات
يجب الإِلتفات إِلى عدّة ملاحظات:
1 - إِنّ ما قرأناه في الآيات أعلاه غير مختص بعبدة الأوثان، بل هو قانون كلي ينطبق على كل الأفراد الملوّثين من عبيد الدنيا المشغوفين بها فعندما تحيط بهم أمواج البلايا والمحن وتقصر أياديهم عن كل شيء، ولا يرون لهم ناصراً ولا معينا، فإِنّهم سيمدون أيديهم بالدعاء بين يدي الله سبحانه ويعاهدونه بألف عهد وميثاق، وينذرون ويقطعون العهود بأنّهم إِن تخلصوا من هذه البلايا والأخطار سيفعلون كذا وكذا.
إِلاّ أنّ هذه اليقظة والوعي التي هي انعكاس لروح التوحيد الفطري، لا تستمر طويلا عند أمثال هؤلاء، فبمجرّد أن يهدأ الطوفان وتنقشع سحب البلاء، فإِنّ حجب الغفلة ستغشي قلوبهم، تلك الحجب الكثيفة التي لاتنقشع عن تلك القلوب إلاّ بالطوفان.
ورغم أنّ هذه اليقظة مؤقتة، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوّثين جدّاً، أنّها تقيم الحجّة عليهم، وستكون دليلا على محكوميتهم.
أمّا الذين تلوثوا بالمعاصي قليلا، فإِنّهم سيتنبهون في هذه الحوادث ويصلحون مسارهم.
وأمّا عباد الله الصالحون فأمرهم واضح، فإِنّ توجههم إِلى الله سبحانه في السراء بنفس قدر توجههم إِليه في الضراء، لأنّهم يعلمون أن كل خير وبركة تصل إِليهم، وتبدو ظاهراً أنّها نتيجة للعوامل الطبيعية، فإِنّها في الواقع من الله تعالى.
وعلى كل حال، فإِنّ هذا التذكير والتذكر قد جاء كثيراً في آيات القرآن المجيد.
2 - لقد ذكرت "الرحمة" في الآيات أعلاه مقابل "الضراء"، ولم تذكر السراء، وهي إِشارة إِلى أنّ أي حسن ونعمة تصل إِلى الإِنسان فهي من الله سبحانه ورحمته اللامتناهية.
في حين أنّ السوء والنقمات إِذا لم تكن للعبرة، فإِنّها من آثار أعمال الإِنسان نفسه.
3 - إِنّ الضمائر في بداية الآية الثّانية من الآيات التي نبحثها وردت بصيغة المخاطب، إلاّ أنّها في الأثناء بصيغة الغائب، ومن المسلم أن لذلك نكتة ما:
قال بعض المفسّرين: إِنّ تغيير أسلوب الآية من أجل أنّها تبيّن حال المشركين وتعرضهم في الحال ابتلائهم بالطوفان والبلاء درساً وعبرة للآخرين، ولهذا فإِنّها فرضتهم غائبين وفرضت الباقين حضوراً.
وقال البعض الآخر: إِنّ النكتة هي عدم الإِعتناء بهؤلاء وتحقيرهم، حيث أن الله سبحانه قد قبل حضور هؤلاء وخاطبهم.
ثمّ أبعدهم عنه وتركهم.
ويحتمل أيضاً أن تكون الآية بمثابة تجسيم طبيعي عن وضع الناس، فما داموا جالسين في السفينة ولم يبتعدوا عن الساحل فإِنّهم في إطار المجتمع، وعلى هذا يمكن أن يكونوا مخاطبين، أمّا عندما تبعدهم السفينة عن الساحل، ويختفون عن الأنظار تدريجياً، فإِنّهم يعتبرون كالغائبين، وهذا في الواقع تجسيم حي لحالتين مختلفتين عند هؤلاء.
4 - إِنّ جملة (أحيط بهم) تعني أنّ هؤلاء قد أحاطت بهم الأمواج المتلاطمة من كل جانب، إلاّ أنّها هنا كناية عن الهلاك والفناء الحتمي لهؤلاء.
﴿فَلَمَّا أَنجَاهُمْ﴾ إلى البر ﴿إِذَا هُمْ يَبْغُونَ﴾ يظلمون ﴿فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ بالشرك والفساد ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ﴾ ظلمكم كائن ﴿عَلَى أَنفُسِكُم﴾ لأن وباله عليها ﴿مَّتَاعَ﴾ بالرفع خبر محذوف وبالنصب مصدر، أي تمتعون متاع ﴿الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الزائلة ﴿ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ﴾ في الآخرة ﴿فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بالجزاء به.