ولهذا فإِنّ الآية التالية أشارت بجملة قصيرة إِلى الحياة المقابلة لهذه الحياة، وقالت: (والله يدعو إِلى دار السلام).
فلا وجود ولا خبر هناك عن مطاحنات واعتداءات المتكالبين على الحياة المادية، ولا حرب ولا إِراقة دماء ولا استعمار ولا استثمار، وكل هذه المفاهيم قد جمعت في كلمة دار السلام.
وإِذا تلبّست الحياة في هذه الدنيا بعقيدة التوحيد والايمان بالمبدأ والمعاد، فإِنّها ستتبدل أيضاً إِلى دار السلام، ولا تكون حينئذ كالمزرعة التي أتلفها البلاء والوباء.
ثمّ تضيف الآية: إنّ الله سبحانه يهدي من يشاء - إِذا كان لائقاً لهذه الهداية - إِلى صراطه المستقيم، ذلك الصراط التي ينتهي إِلى دار السلام ومركز الأمن والأمان (ويهدي من يشاء إِلى صراط مستقيم).
ملاحظات
1 - لما كان القرآن كتاب تربية وتكامل للإِنسان، فإنّه يستعين بالأمثلة لتوضيح الحقائق العقلية في كثير من الموارد، وقد يجسّد المواضيع التي لها امتداد زمني طويل في مسرحية وتمثيلية قصيرة وقابلة للمطالعة أمام أعين الناس.
إِنّ متابعة تأريخ مليء بالحوادث يتعلق بإِنسان ما، أو جيل ما، والذي قد يطول لمائة سنة أحياناً ليس بالأمر الهين بالنسبة للأفراد العاديين، أمّا عندما تتلخص هذه الساحة والحياة في عدّة أشهر، كما هو الحال في حياة كثير من النباتات، من الولادة إِلى الرشد والنمو والجمال، ثمّ الهلاك والموت، وتظهر أمام الإِنسان، فإنّه يستطيع أن يرى ببساطة مراحل حياته وكيفيتها في هذه المرآة الشفافة.
جسموا هذه اللقطات أمام أعينكم تماماً: حديقة مليئة بالأشجار والخضرة والنباتات الدائمة الثمر، وصخب الحياة يعم كل أرجائها... وفجأة في ليلة مظلمة، أو يوم صحو تغطي السحب السوداء وجه السماء، وترعد وتبرق ثمّ تهب الاعاصير العاتية وتنهمر الأمطار الشديدة من كل جانب وتدمرها.
غداً نأتي لرؤية تلك الحديقة... الأشجار متكسرة... النباتات والأعشاب مبعثرة وميتة، وكل شيء أمامنا ملقىً على الأرض بصورة لا نصدق معها أنّ هذه هي تلك الحديقة الغنّاء الجميلة التي كانت تبتسم في وجوهنا بالأمس!.
نعم، هكذا هي الحوادث في حياة البشر، خصوصاً في عصرنا الحاضر حيث تدمّر زلزلة أو حرب لاتطور إلاّ ساعات قليلة مدينة عامرة وجميلة، ولا تبقي منها إِلاّ الأنقاض.
واجساد متنائرة هنا وهناك.
آه... ما أشد غفلة الذين يفرحون بمثل هذه الحياة الزائلة الفانية ؟!
2 - في جملة (فاختلط به نبات الأرض) ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الإِختلاط في الأصل - كما قال الراغب في المفردات - هو الجمع بين شيئين أو أكثر، سواء كانت سائلة أو جامدة.
والإِختلاط أعم من الإِمتزاج، لأن الإِمتزاج يطلق عادة على السوائل، وعلى هذا يكون معنى الجملة أنّ النباتات يختلط بعضها بالبعض الآخر بواسطة ماء المطر، سواء النباتات التي تنفع الإِنسان، أو الحيوان (1).
وتشير الجملة أعلاه - أيضاً - إِشارة ضمنية إِلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله سبحانه ينبت من ماء المطر، الذي هو نوع واحد وليس له إلاّ حقيقة واحدة، أنواع النباتات المختلفة التي تؤمن مختلف حاجات الانسان والحيوان من المواد الغذائية.
﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ﴾ السلامة أو دار الله أي الجنة ﴿وَيَهْدِي مَن يَشَاء﴾ بلطفه ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ موصل إليها وهو الإيمان.