وفي آخر آية إِشارة إِلى المصدر الأساس والعامل الأصل لهذه الإِنحرافات وهو الاوهام والظنون (وما يتبع أكثرهم إلاّ ظناً إِن الظن لا يغني من الحق شيئاً) وفي النهاية تخاطب الآية - بأُسلوب التهدد - مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يتبعون أي منطق سليم وتقول: (إِنّ الله عليم بما يفعلون).
ملاحظات
1 - قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله سبحانه وحده الذي يهدي إِلى الحق، وهذا الحصر إِمّا لأنّ المقصود من الهداية ليس.
هو إِراءة الطريق وحسب، بل هو الإِيصال إِلى المقصد، وهذا الأمر بيد الله فقط، أو لأنّ إِراءة الطريق والدلالة عليه هو أيضاً من عمل الله في الدرجة الأُولى، وأمّا غيره من الأنبياء والمرشدين والمصلحين الإِلهيين فإِنّهم يطلعون على طريق الهداية عن طريقه وهدايته، ويصبحون علماء بتعليمه.
2 - إِنّ ما نقرؤه في الآيات أعلاه من أنّ آلهة المشركين لا تستطيع أن تهدي أحداً، بل هي بذاتها محتاجة إِلى الهداية الإِلهية، وإِن كان لا يصدق على الأصنام الحجرية والخشبية، لأنّها لا تملك العقل والشعور مطلقاً، إلاّ أنّه يصدق تماماً في حق الآلهة التي لها شعور كالملائكة والبشر الذين أصبحوا معبودين.
ويحتمل أيضاً أن تكون الجملة المذكورة بمعنى القضية الشرطية، أي على فرض أنّ للأصنام عقلا وشعوراً، فإِنّها لا تستطيع أن تجد الطريق بدون الهداية الإِلهية لنفسها، فكيف ستقدر على هداية الآخرين؟
وعلى كل حال، فإِنّ الآيات أعلاه تبيّن - بوضوح - أنّ من برامج الله الأصلية لعباده أن يهديهم إِلى الحق، ويتمّ ذلك عن طريق منح العقل، وإِعطاء الدروس المختلفة عن طريق الفطرة، وإِرادة وإِظهار آياته في عالم الخلقة، وكذلك عن طريق إِرسال الأنبياء والكتب السماوية.
3 - طالعنا في آخر آية من هذه الآيات أنّ أكثر المشركين وعبدة الأصنام يتبعون ظنونهم وأوهامهم، وهنا يأتي سؤال، وهو: لماذا لم يقل الله سبحانه: وما يتبع كلّهم بدل أكثرهم، لأنّا نعلم أنّ جميع المشركين شركاء في هذا الظن الباطل، حيث يعتقدون أنّ الأصنام آلهة بحق وتملك النفع والضرر وتشفع عند الله، ولهذا فإِنّ البعض اضطر إِلى تفسير كلمة "أكثرهم" بأنّها تعني "جميعهم"، وذهب أن هذه الكلمة جاءت أحياناً بهذا المعنى.
إِلاّ أنّ هذا الجواب غير وجيه، والأفضل أن نقول: إِن المشركين صنفان: صنف يشكل الأكثرية، وهم الأفراد الخرافيون الجهلاء الذين وقعوا تحت تأثير الأفكار الخاطئة، واختاروا الأصنام لعبادتها.
أمّا القسم الثّاني، وهم الأقلية، فهم الزعماء وأئمّة الكفر الواعون لحقيقة الأمر والمطّلعون على عدم صحة عبادة الأصنام وأنّها لا أساس لها، وإِلاّ أنّهم يدعون الناس لعبادتها حفظاً لمصالحهم، ولهذا السبب فإِنّ الله يجيب الصنف الأوّل فقط لأنّهم مؤهلين للهداية، أمّا الصنف الثّاني فلم يعبأ بهم مطلقاً لأنّهم سلكوا هذا الطريق عن علم ووعي.
4 - يعتبر جماعة من علماء الأصول هذه الآية وأمثالها دليلا على أن الظن لا يمكن أن يكون حجة وسنداً بأي وجه من الوجوه، وأن الأدلة القطعية هي الوحيدة التي يمكن الإِعتماد عليها.
إِلاّ أنّ جماعة أُخرى يقولون: إِنّنا نلاحظ بين الادلة الفقهية أدلّة ظنية كثيرة، كحجية ظواهر الألفاظ، وشهادة الشاهدين العدلين، أو خبر الواحد الثقة وأمثال ذلك، ولذلك فإِنّ الآية المذكورة دليل على أنّ القاعدة الأصلية في مسألة الظن هي عدم حجيته، إلاّ أنّ تثبت حجيته بالدليل القطعي كالأمثلة أعلاه.
إِلاّ أنّ الحق هو أنّ الآية أعلاه تتحدث عن الظنون والأوهام التي لا أساس لها، كظنون وأوهام عبدة الأصنام فقط، ولا علاقة لها بالظن الذي يمكن الإِعتماد عليه والموجود بين العقلاء، وبناء على هذا فإِنّ هذه الآية وأمثالها لايمكن الإِستناد إِليها بأي وجه في مسألة عدم حجية الظن.
فتدبر جيداً.
﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا﴾ من تقليد آبائهم ﴿إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ﴾ من العلم الثابت ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به ﴿إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ من الإشراك به فيجازيهم عليه.