لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
النّزول كان المشركون في الجاهلية يأتون مكة لأداء مناسك الحج، وكانت هذه المناسك ذات أصل إبراهيمي مع كثير من التحريف والخرافات والشرك. فكانت المناسك عبارة عن الوقوف بعرفات والاضحية والطّواف والسّعي بين الصفا والمروة. ولكن بشكل خاص بالجاهليين. وجاء الإسلام وأصلح هذه المناسك، وطهّرها مما علق بها من تحريف، وأقرّ ما كان صحيحاً منها ومن جملتها السعي بين الصفا والمروة. واستناداً إلى روايات المؤرخين من الشّيعة وأهل السّنة أن المشركين كانوا يسعون بين الصفا والمروة، وقد وضعوا على الصفا صنماًاسمه «أساف»، وعلى المروة صنماً آخر سموه «نائلة» وكانوا يتمسحون بهما لدى السعي، من هنا خال المسلمون أن السعي بين الصفا والمروة عمل غير صحيح، وكرهوا أن يفعلوا ذلك. الآية المذكورة نزلت لتعلن أن الصفا والمروة من شعائر الله، وتلويثها بالشرك على يد الجاهليين لا يبرر إعراض المسلمين عن السعي بينهما. واختلف المفسرون في وقت نزول الآية، منهم من قال إنها نزلت في (عمرة القضاء) في السنة السابعة للهجرة، وكان من شروط النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المشركين في هذه السفرة رفع الصنمين من الصفا والمروة، وقد عملوا بهذا الشرط، لكنهم أعادوهما إلى محلهما. وهذا أدّى إلى كراهة المسلمين والسعي بين الصفا والمروة، فنزلت الآية لتنهاهم عن هذه الكراهة. وقيل إنّها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة. ومن المؤكد أن مكة كانت في هذه السنة خالية من الأصنام. ومن هنا يلزمنا أن نعتبر كراهة المسلمين السعي بين الصفا والمروة بسبب السوابق التاريخية لهذين المكانين حيث انتصب فيهما «أساف ونائلة». التّفسير أعمال الجهلة لا توجب تعطيل الشعائر: هذه الآية الكريمة تستهدف إزالة ما علق في ذهن المسلمين ونفوسهم من رواسب بشأن الصفا والمروة كما مرّ في سبب النّزول، وتقول للمسلمين: ﴿إِنَّ الصَّفا وَالْمُرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾. ومن هذه المقدمة تخرج الآية بنتيجة هي: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾. يلا ينبغي أن تكون أعمال المشركين الجاهليين عام على إيقاف العمل بهذه الشعيرة، وعلى تقليل شأن وقدسية هذين المكانين. ثم تقول الآية أخيراً: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾. فالله يشكر عباده المتطوعين للخير بأن يجازيهم خيراً، وهو سبحانه عالم بسرائرهم، يعلم من تعلّق قلبه بهذه الأصنام ومن تبرّأ منها. بحوث 1 - الصفا والمروة: الصفا والمروة اسمان لجبلين صغيرين في مكة، يقعان اليوم بعد توسيع المسجد الحرام، في الضلع الشرقي للمسجد، في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود ومقام إبراهيم. يفصل بين الجبلين 420 متراً تقريباً، والمسعى اليوم بدل بصالة كبيرة مسقّفة ذات طابقين يسعى الحجاج فيهما، وارتفاع الصفا خمسة عشر متراً، والمروة ثمانية أمتار. واللفظان اليوم علمان لهذين الجبلين، وفي الأصل الصفا هي الصخرة الملساء القوية المختلطة بالحصى والرمل، والمروة الصخرة القوية المتعرّجة. والشعائر جمع شعيرة أي العلامة، وشعائر الله أي العلامات التي تذكّر الإنسان بالله، وتعيد إلى الأذهان ذكريات مقدسة. و«اعتمر» أي أدى العمرة، والعمرة في الأصل الملحقات الإضافية في البناء، وفي الشريعة تطلق على الأعمال الخاصة، التي يؤديها المسلم إلى جانب أعمال الحج، أو يؤديها لوحدها في العمرة المفردة. وبينها وبين أعمال الحج أوجه اشتراك وافتراق. 2 - من أسرار السعي بين الصفا والمروة: صحيح أن قراءة تاريخ حياة عظماء التاريخ يدفع الإنسان إلى الإقتداء بهم، لكن هناك طريقاً أكثر تأثيراً، وهو مشاهدة المعالم الأثرية التي كافح عليها هؤلاء الرجال، وسجلوا فيها بطولاتهم. هذه المعالم هي في الواقع ليست مثل كتب التاريخ الميتة، بل هي تاريخ حيّ ناطق، يستطيع أن يُحلّق بالإنسان عبر القرون والأعصار، ليجعله يعيش مع الحوادث الماضية بكل مشاعره. الأثر التربوي لهذه المشاهدات أعمق بكثير من تأثير الكتب والمحاضرات وأمثالها... فهنا الشعور لا الإدراك، والتصديق لا التصور، والعينية لا الذهنية. من جهة اُخرى، قلّ أن يوجد بين الأنبياء نبيّ كإبراهيم (عليه السلام) ، خاض ألوان النضال وتعرض لأنواع الإِمتحان، حتى قال القرآن عمّا اختبر به: ﴿إِنَّ هَذا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبينُ﴾. وهذه المعاناة الطويلة التي عاشها إبراهيم هي التي أهّلته لأن ينال مقام «الإمامة». مناسك الحج تجسّد في الأذهان دورة كاملة من مشاهد كفاح إبراهيم ومراحل تكامله التوحيدي وعبوديته وتضحياته وإخلاصه. لو فهم المسلمون - لدى أدائهم مناسك الحج - روح الحج وأسراره، وتعمّقوا في جوانبه «الرّمزية» لكان الحج دورة تربوية في حقل معرفة الله والنّبوة والشخصية الإِنسانية. بعد هذه المقدمة نعود إلى الخلفيّة التاريخية للصّفا والمروة. إبراهيم (عليه السلام) بلغه الكبر ولم يُرزق ولداً، فدعى ربّه أن لا يتركه فرداً، فاستجاب له، ورزقه من جاريته هاجر ولداً سمّاه «إسماعيل». لم تستطع «سارة» زوجته الاُولى أن تطيق الحالة الجديدة، وقد رزق إبراهيم ولداً من غيرها، فأمر الله إبراهيم أن يهاجر بالطفل والأم إلى مكة حيث الأرض القاحلة المجدبة آنذاك، ويسكنهما هناك. امتثل إبراهيم أمر ربه، وذهب بهما إلى صحراء مكة وأسكنهما في تلك الأرض، وهمّ بالرجوع، فضجّت زوجته بالبكاء، إذ كيف تستطيع أن تعيش امرأة وحيدة مع طفل رضيع في مثل هذه الأرض؟! بكاء هاجر ومعه بكاء الطفل الرضيع هزّ إبراهيم من الأعماق، لكنه لم يزد يعلى أن ناجى ربّه قائ: ﴿رَبَّنَا إِنّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقهُمْ مِنَ الَّثمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾، ثم ودّع زوجه وطفله بحزن وألم عميقين. لم يمض وقت طويل حتى نفذ طعام الأمّ وماؤها، وجفّ لبنها. بكاء الطفل أضرم في نفس الأم ناراً، ودفعها لأن تبحث بقلق واضطراب عن الماء. اتجهت يأو إلى جبل «الصفا» فلم تجد للماء أثراً، لَفت نظرها بريق ماء عند جبل «المروة» فأسرعت إليه فوجدته سراباً، ثم رأت عند المروة بريقاً لدى الصفا أسرعت إليه فما وجدت شيئاً، وهكذا جالت سبع مرات بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء. وفي النهاية، وبعد أن أشرف الطفل على الموت، انفجرت عند رجله فجأة عين زمزم، فشرب الطفل وأمه ونجيا من الموت المحقق. الماء، رمز الحياة، وانفجار العين جرّ الطيور من الآفاق نحو هذه الأرض، والقوافل شاهدت حركة الطيور، فاتجهت هي أيضاً نحو الماء وببركة هذه العائلة تحولت أرض مكة إلى مركز حضاري عظيم. ويقع جوار الكعبة حجر إسماعيل حيث مدفن تلك المرأة وابنها، وعلى الحاج أن يضمه إلى البيت في طوافه، أي يجب على الحجاج أن يطوفوا خارج هذه الحجر وكأنه جزء من الكعبة. في الصفا والمروة درس في التضحية بكل غال ونفيس، حتى بالطفل الرضيع، من أجل المبدأ والعقيدة. السعي بينهما يعلمنا أن نعيش دائماً أمل النجاح والإنتصار، حتى في أشدّ لحظات الشدّة، فهاجر بذلت سعيها وجاءها رزق الله من حيث لا تحتسب. السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: إن هاتين الشعيرتين كانتا يوماً وكراً لصنمين من أصنام العرب، وأصبحتا اليوم معلمين من معالم التوحيد بفضل جهاد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، من حق جبل الصفا أن يفخر ويقول: أنا أول منطلق لدعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فحينما كانت مكة تغطّ في ظلمات الشرك وبزغ من عندي فجر الهداية. واعلموا أيّها الساعون بين الصفا والمروة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صعد يوماً على هذا الجبل ليدعو النّاس إلى الله، فلم يجبه أحد، واليوم فإن الآلاف المؤلفة تجيب الدعوة وتحج بيت الله على النهج المحمّدي الإبراهيمي. وإنه لدرس لكم يعلمكم أن تسيروا على طريق الحقّ دونما يأس، وإن قلّ الناصر والمجيب. السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: اعرفوا قدر نعمة هذا الدين وهذا المركز التوحيدي، فثمة أفراد حفظوا الشريعة وشعائرها لنا بدمائهم على مرّ التاريخ. من أجل إحياء كل تلك الأحاسيس والمشاعر في النفوس، أمر الله الحجيج أن يسعوا سبع مرات بين الصفا والمروة. أضف إلى ما تقدم أن السعي يقضي على كبر الإنسان وغروره، فلا أثر للتبختر والتصنع في السعي، بل لابدّ من قطع هذه المسافة ذهاباً ومجيئاً مع كافة النّاس، وبنفس لباس النّاس، وبهرولة أحياناً!! ولذلك ورد في الروايات أن السعي إيقاظ للمتكبرين. على أية حال، بعد أن ذكرت الآية أن الصفا والمروة من شعائر الله، أكدت عدم وجود جناح على من يطوّف بهما في الحج والعمرة، والطواف بين الصفا والمروة هو السعي بينهما، لأن الحركة التي يعود فيها الإنسان إلى حيث إبتدأ هي طواف وإن لم تكن الحركة دائرية. 3 - جواب على سؤال: لفظ (لاجناح) يشير إلى عدم حرمة السعي بين الصفا والمروة وجواز ذلك، وقد يسأل سائل عن سبب وجوب السعي في الفقه الإسلامي، بينما الآية تبيحه فقط؟ الجواب على هذا السؤال نفهمه بوضوح من سبب نزول الآية. فالمسلمون كرهوا السعي بين الصفا والمروة، بعد أن شاهدوا بأم أعينهم مدى عبث المشركين بهذا المكان، ومدى تلويثهم إياه بالأصنام. فخالوا أن من غير اللائق بالمسلم أن يسعى في هذا المكان. جاءت الآية لتقول لهم: إن الصفا والمروة من شعائر الله، وعبارة (لا جناح)لإزالة ما تصوروه من كراهة لهذا العمل. وثمّة تعبيرات مشابهة ذكرها القرآن لأحكام اُخرى كصلاة المسافر في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ﴾. ونعلم أن القصر واجب في صلاة المسافر، لا جائز. بشكل عام قد تستعمل كلمة (لا جناح) لإزالة التوهم بحرمة الشيء أو بكراهته، وهذا المعنى يؤكده حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) في كتاب «من لا يحضره الفقيه». 4 - معنى التطوع: التطوع في اللغة: قبول الطاعة والإنصياع للأوامر، وفي الفقه يطلق على الأعمال المستحبة، من هنا ذهب أَغلب المفسرين إلى تفسير «وَمن تطوع...» بالحج المستحب والعمرة المستحبة، أو الطواف، أو أي عمل مستحب آخر. يفالعبارة تعني إذن أن الله شاكر لمن يعمل الخيرات امتثا لأوامره سبحانه، والله عليم بكل هذه الأعمال. ومن المحتمل أيضاً أن تكون العبارة تأكيداً لما سبقها، ويكون المقصود بالتطوع حينئذ قبول الطاعة في أداء الأعمال الشاقة. معنى العبارة، على هذا، على الحجاج السعي بين الصفا والمروة بكل ما فيه من مشاق ورغم كراهتكم لذلك... هذه الكراهة الناتجةعن سوء تصرف الجاهليين بهذا المكان المقدس. 5 - شكر الله: ينبغي الإِلتفات هنا إلى عبارة الشاكر في الآية، وهو تعبير في غاية الروعة، وإنه لتكريم ما بعده تكريم للإنسان، أن يشكره الله على أعماله الخيّرة. وحين يكون الله شاكراً لعبده على برّه، فمن الأَولى أن يكون العبد شاكراً لربّه على نعمه التي لا تحصى، وشاكراً لمن أحسن إليه من العباد. ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾ هما جبلان بمكة معروفان ﴿مِن شَعَآئِرِ اللّهِ﴾ من أعلام مناسكه ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ نزلت حين تحرج المسلمون من الطواف بهما وعليهما الأصنام أو حين ظنوا أن السعي بهما شيء صنعه المشركون ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ تبرع زيادة على الواجب من حج أو عمرة أو غيره أو الأعم أو من فعل طاعة من فرض أو نفل وقرىء يطوع وأصله يتطوع ﴿فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ﴾ مجاز على ذلك ﴿عَلِيمٌ﴾ به.