ثمّ ومن أجل إِكمال هذا البحث، وتبيّن طرق معرفة الله، والإِبتعاد عن الشرك وعبادة الأوثان، أشارت الآية الثّانية إِلى جانب من المواهب الإِلهية التي أودعت في نظام الخلقة والدالّة على عظمة وقدرة وحكمة الله عزَّوجلّ، فقالت: (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً).
إِنّ نظام النور والظلمة الذي أكدت عليه آيات القرآن مراراً، نظام عجيب وغزير الفائدة، فهو من جهة يضيء عرصة حياة البشر بإِفاضة النور في مدّة معينة ويحركها ويبعثها على السعى والجد، ومن جهة أُخرى فإِنّه بإِرخاء سدول الليل المظلم وهدوئه يهيء الروح والجسد المتعبين للعمل والحركة من جديد.
نعم (إِن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) أُولئك الذين يسمعون ويدركون، وبعد إِدراك الحقيقة يتبعونها ويسيرون على نهجها.
ملاحظات
1 - إِنّ الهدوء والسكون النفسي الذي هو الهدف من خلق الليل بات من المسلمات العلمية بعد أن أثبته العلم اليوم، فإِنّ حجب الظلام ليست وسيلة إِجبارية لإِيقاف النشاطات اليومية وحسب، بل لها أثر مباشر على السلسلة العصبية وعضلات الإِنسان وسائر الحيوانات فتجعلهم في حالة استراحة ونوم وسكون، وما أجهل بعض الناس الذين يحيون الليل بالملذات والرغبات، ويقضون النهار - وخاصّة الفجر المنشط - في النوم، ولهذا السبب فإِنّ أعصابهم متوترة وغير متزنة دائماً.
2 - إِذا علمنا أنّ الإبصار بمعنى النظر، فإِنّ معنى جملة: (والنهار مبصراً) سيصبح: إِنّ الله قد جعل النهار ناظراً، في حين أنّ النهار مُبْصَر لا مُبْصِر!
إِن هذا تشبيه ومجاز من قبيل توصيف السبب بأوصاف المسبب، كما يقولون في شأن الليل: ليل نائم، في حين أنّ الليل لاينام، بل هو سبب لأنّ ينام الناس.
3 - إِنّ الآيات أعلاه تدين الظن والوهم مرّة أُخرى وتردّه، لكن لما كان الكلام عن أوهام عبدة الأوثان الخرافية التي لا أساس لها، فإِنّ الظّن هنا لا يعني الظّن العقلائي المدروس الذي يعتبر حجة في بعض الموارد، مثل شهادة الشهود وظاهر الألفاظ والإِقرارات والمكاتبات، وبناء على هذه فإِنّ الآيات أعلاه لا يمكن أن تكون دليلا على عدم حجية الظن.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ أن يبصر فيه فأسند إليه الإبصار مجازا ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ﴾ على وحدانيته ﴿لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سماع تعقل.