الطّيبات والخبائث:
القرآن ينهج أُسلوب التأكيد والتكرار بأشكال مختلفة في معالجته للإِنحرافات المزمنة.
وفي هذه الآيات عودة إلى مسألة تحريم المشركين في الجاهلية لبعض الأطعمة دونما دليل.
مع فارق هو أن الخطاب يتجه في هذه الآيات إلى المؤمنين، بينما خاطبت الآيات السابقة جميع النّاس.
تقول الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾.
هذه النعم الطيبة المحللة المتناسبة مع الفطرة الإنسانية السليمة قد خلقت لكم، فلم لا تستفيدون منها؟!
هذه الأطعمة تمنحكم القوة على أداء مهامكم، وتذكركم بشكر خالقكم وعبادته.
لو قارنا هذه الآية بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الاَْرْضِ﴾ لفهمنا نكتتين:
تقول الآية هنا: ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾، بينما تقول تلك ﴿مِمَّا فِي الاَْرْضِ﴾.
يولعل هذا الإختلاف يشير إلى أن النعم الطيبة مخلوقة أص للمؤمنين، وغير المؤمنين يتناولون هذه الأطعمة ببركة المؤمنين، كالماء الذي يستعمله البستاني لسقي أشجاره وأغراسه، بينما تستفيد من هذا الماء أيضاً الأعشاب والنباتات الطفيلية.
والاُخرى، أن الآية تقول لعامة النّاس: ﴿كُلُوا... وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَات الشَّيْطَانِ﴾وهذه الآية تخاطب المؤمنين وتقول: ﴿كُلُوا...وَاشْكُرُوا للهِ﴾ أي لا تكتفي هذه الآية بالطلب من المؤمنين أن لا يسيئوا الإستفادة من هذه النعم، بل تحثهم على حسن الإستفادة منها.
فالمتوقع من النّاس العاديين أن لايذنبوا في استهلاك هذه النعم، بينما المتوقع من المؤمنين أن يستثمروها في أفضل طريق.
وقد يثير تكرار التأكيد في القرآن الكريم على الإِستفادة من الأطعمة الطيبة يتساؤ عن سبب هذا التكرار.
أمّا لو عدنا إلى تاريخ العصر الجاهلي لفهمنا السبب.
فالجاهليون قد حرّموا على أنفسهم بعض الأطعمة دونما دليل، وتناقلت أجيالهم هذا التحريم وكأنّه وحي منزل، ونسبوه أحياناً بصراحة إلى الله، والقرآن استهدف إقتلاع جذور هذه الأفكار الخرافية من أذهانهم.
ثم إن التركيز على كلمة «طيب» يتضمن أيضاً دعوة إلى اجتناب ما خبث من الأطعمة، كالميتة والوحوش والحشرات، وكالمسكرات السائدة بين النّاس بشدّة آنذاك.
في تفسير الآية 32 من سورة الأعراف تحدثنا بالتفصيل عن استثمار المؤمنين الأطعمة الطيبة والزينة المعقولة (المجلد الخامس من هذا التّفسير).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ من مستلذاته أو حلاله ﴿وَاشْكُرُواْ لِلّهِ﴾ الذي رزقكموها ﴿إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ فإن العبادة لا تتم إلا بالشكر.