سبب النّزول
أجمع المفسرون على نزول هذه الآية في أهل الكتاب، وقيل إنها نزلت خاصة في علماء اليهود.
فقد كانوا قبل ظهور الإسلام يبشرون بصفات النّبي المرتقب وبعلاماته.
وبعد البعثة خاف هؤلاء الأحبار على مصالحهم فكفّوا عن طريقتهم السابقة، وكتموا ما عندهم في التوراة من صفات النّبي، فنزلت الآيات تؤنّبهم.
التّفسير
إدانة كتمان الحقّ مرّة اُخرى:
هذه الآيات تأكيد على ما مرّ في الآية 159 بشأن كتمان الحقّ.
وهي - وإن كانت تخاطب أحبار اليهود - لها مفهوم عام، لا تقتصر - كما ذكرنا مراراً - على سبب نزولها.
فسبب النّزول - في الواقع - وسيلة لبيان الأحكام الكلية العامة، ومصداق من مصاديق الحكم الكلي للآية.
فكل الذين يكتمون أحكام الله وما يحتاجه النّاس من حقائق طلباً للرّئاسة أو الثروة، قد ارتكبوا خيانة كبرى، وعليهم أن يعلموا أنهم باعوا حقيقة نفيسة بثمن بخس، وهي تجارة خاسرة.
الآية الاُولى تقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ يثَمَناً قَلِي أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بِطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ﴾.
هذه الهدايا والعطايا التي ينالونها من هذا الطريق نيران محرقة تدخل بطونهم.
هذا التعبير يوضح ضمنياً مسألة تجسيم الأعمال في الآخرة وتدل على أن الأموال المكتسبة عن هذا الطريق المحرّم، هي في الواقع نيران تدخل في بطونهم وستتجسّم بشكل واقعي في الآخرة.
ثم تتعرض الآية إلى عقاب معنوي سينال هؤلاء أشدّ من العقاب المادي، وتقول: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
وفي موضع آخر ذكر القرآن مثل هذا اللون من العقاب لأُولئك الذين ينكثون عهد الله من أجل مصالح تافهة، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً يقَلِي أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
يستفاد من هذه الآية والآية التالية أن واحدة من أعظم المواهب الإِلهية في الآخرة أن يكلم الله المؤمنين تلطفاً بهم.
أي إن المؤمنين سينالون في الآخرة نفس المنزلة التي نالها أنبياء الله في الدنيا، وسيلتذون بما التذ به الأنبياء من تكليم إلهي... وأية لذة أعظم من هذه اللذة؟!
أضف إلى ذلك إن الله ينظر إليهم بعين لطفه، ويطهرهم بماء عفوه ورحمته، وأية نعمة أعظم من هذه النعمة؟!
بديهي أن تكليم الله عبادَه لا يعني أن الله له جسم ولسان، بل إنه بقدرته الواسعة يخلق في الفضاء أمواجاً صوتية خاصة قابلة للسمع والإِدراك، (كما كلّم الله موسى عند جبل الطور)، أو أنه يتكلم مع خاصة عباده بلسان القلب عن طريق الإلهام.
على أية حال، هذا اللطف الإلهي الكبير، وهذه اللذة المعنوية المنقطعة النظير، للعباد المخلصين الذين ينطقون بالحق ويعرّفون النّاس بالحقائق، ويلتزمون بعهودهم ومواثيقهم، ولا يضحون برسالتهم من أجل مصالحهم المادية.
وقد يسأل سائل عن تكليم الله المجرمين يوم القيامة، استناداً الى ما ورد في الآيات كقوله تعالى: ﴿قَالَ اخْسَؤُا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونْ﴾.
وهذا جواب من الله لأُولئك الذين يطلبون الخروج من النار.
ومثل هذا الحوار نجده في الآيتين 30 و31 من سورة الجاثية.
والجواب: أن المقصود من التكليم في آيات بحثنا، هو تكليم عن لطف وحبّ واحترام، لا عن تحقير وطرد وعقوبة فذلك من أشدّ الجزاء.
من الواضح أن عبارة ﴿يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِي﴾ لا تعني السماح بأن يشتروا به ثمناً باهظاً، فالمقصود أن الثمن المادّي مهما زاد فهو تافه لا قيمة له أمام كتمان الحقّ، حتى ولو كان الثمن الدنيا وما فيها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ من اليهود وغيرهم ﴿مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ التوراة في بعث محمد ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا﴾ عوضا ﴿قَلِيلاً﴾ من حطام الدنيا ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ ملؤها يقال أكل في بطنه وفي بعض بطنه ﴿إِلاَّ النَّارَ﴾ إذ يؤديهم ذلك إليها ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بكلام خير بل بنحو اخسئوا أو عبر به عن غضبه ﴿وَلاَ يُزَكِّيهِمْ﴾ من ذنوبهم أو بالثناء عليهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مؤلم.