لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ دأبت الأمم والشّعوب على أن تبدأ كل عمل هام ذي قيمة باسم كبير من رجالها. والحجر الأساس لكل مؤسسة هامّة يوضع باسم شخصية مرموقة في نظر أصحابها، أي أن أصحاب المؤسسة يبدأون العمل باسم تلك الشّخصية. ولكن، أليس من الأفضل أن يبدأ العمل في اُطروحة اُريد لها البقاء والخلود باسم وجود خالد قائم لا يعتريه الفناء؟ فكلّ ما في الكون يتجه إلى الزّوال والفناء، إلا ما كان مرتبطاً بالذات الأبدية الخالدة... ذات الله سبحانه. إنّ خلود ذكر الأنبياء سببه إرتباطهم بالله وبالقيم الإنسانية الإِلهية الخالدة كالعدالة وطلب الحقيقة، وخلود اسم رجل في التّاريخ مثل (حاتم الطّائي)، يعود إلى إرتباطه بواحدة من تلك القيم هي (السّخاء). صفة الخلود والأبدية يختص بها الله تعالى من بين سائر الموجودات، ومن هنا ينبغي أن يبدأ كلّ شيء باسمه وتحت ظلّه وبالاستمداد منه. ولذلك كانت البسملة أوّل آية في القرآن الكريم. والبسملة لا ينبغي أن تنحصر في اللفظ والصورة، بل لابدّ أن تتعدّى ذلك إلى الإِرتباط الواقعي بمعناها، وهذا الإِرتباط يخلق الإِتجاه الصحيح ويصون من الإنحراف، ويؤدي حتماً إلى نتيجة مطلوبة مباركة. لذلك جاء في الحديث النّبوي الشريف: «كُلُّ أمْر ذِي بَال لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ اسْمُ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ». وأميرالمؤمنين (عليه السلام) بعد نقله لهذا الحديث الشريف قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَرَادَ أَنْ ييَقْرَأَ أَوْ يَعْمَلَ عَمَ فَيَقُولُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَإِنَّهُ يُبَارَكَ فيهِ». ويقول الإِمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) : «... وَيَنْبَغي الإِتْيَانُ بِهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ أَمْر عَظِيم أَوْ صَغِير لِيُبَارَكَ فيهِ». بعبارة موجزة: بقاء العمل وخلوده يتوقف على ارتباطه بالله. من هنا كانت الآية الاُولى التي أنزلها الله على نبيّه الكريم تحمل أمراً لصاحب الرسالة أن يبدأ مهمته الكبرى باسم الله: ﴿إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ...﴾. ولذلك أيضاً فإنّ نوحاً (عليه السلام) - حين يركب السفينة في ذلك الطوفان العجيب، ويمخر عباب الأمواج الهادرة، ويواجه ألوان الأخطار على طريق تحقيق هدفه - يطلب من أتباعه أن يردّدوا البسملة في حركات السفينة وسكناتها. ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا ومُرْسَاهَا﴾. وانتهت هذه السفرة المليئة بالأخطار بسلام وبركة كما يذكر القرآن الكريم: ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَم مِنَّا وَبَرَكَات عَلَيْكَ وَعَلى أُمم مِمَّنْ مَعَكَ﴾. وسليمان (عليه السلام) يبدأ رسالته إلى ملكة سبأ بالبسملة: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيَْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ...﴾. وانطلاقاً من هذا المبدأ تبدأ كلّ سور القرآن بالبسملة، كي يتحقّق هدفها الأصل المتمثل بهداية البشرية نحو السعادة، ويحالفها التوفيق من البداية إلى ختام المسيرة. وتنفرد سورة التوبة بعدم بدئها بالبسملة، لأنّها تبدأ بإعلان الحرب على مشركي مكة وناكثي الأيمان، وإِعلان الحرب لا ينسجم مع وصف الله بالرحمن الرحيم. تجدر الإِشارة إلى أنّ البسملة تقتصر على صيغة «بسم الله» ولا تقول فيها: باسم الخالق أو باسم الرزاق وما شابهها من الصيغ. والسبب يعود إلى أنّ كلمة (الله) - كما سيأتي - جامعة لكلّ أسماء الله وصفاته. أمّا الأسماء الاُخرى لله فتشير إلى قسم من كمالاته كالرحمة والخالقية. اتضح ممّا سبق أيضاً أنّ قولنا: «بِاسْمِ اللهِ» في بداية كلّ عمل يعني «الاستعانة» بالله، ويعني أيضاً «البدء» باسم الله. وهذان المعنيان يعودان إلى أصل واحد، وإن عمد بعض المفسّرين إلى التفكيك بينهما وتقدير كل واحد منهما في الكلام. فالمعنيان متلازمان، أي: أبدأ باسم الله وأستعين بذاته المقدّسة. وطبيعي أنّ البدء باسم الله الذي تفوق قدرته كل قدرة، يبعث فينا القوة، والعزم، والثقة، والإِندفاع، والصمود والأمل أمام الصعاب والمشاكل، والإِخلاص والنزاهة في الحركة. وهذا رمز آخر للنجاح، حين تبدأ الأعمال باسم الله. مهما أطلنا الحديث في تفسير هذه الآية فهو قليل، فالمعروف عن عليّ (عليه السلام) أنّه بدأ يفسّر لابن عباس آية البسملة في أول الليل، فأسفر الصبح وهو لم يتجاوز تفسير الباء منها، غير أنّنا ننهي البحث بحديث عنه (عليه السلام) ، وستكون لنا بحوث اُخرى في هذا الصدد خلال بحوثنا القادمة. دَخَلَ عَبْدُ الله بنُ يَحْيى عَلى أَمِير الْمُؤْمِنينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ كُرْسِيٌّ فَأَمَرَهُ بالْجُلُوسِ عَلَيْهِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ فَمَالَ بِهِ حَتّى سَقَطَ عَلى رَأْسِهِ فَأَوْضَحَ عَنْ عَظْمِ رَأْسِهِ وَسَالَ الدَّمُ، فَأَمَرَ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِمَاء فَغَسَلَ عَنْهُ ذَلِكَ الدَّمَ ثُمَّ قَالَ: أُدْنُ مِنّي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلى مَوْضِحَتِهِ «... أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ حَدَّثَني عَن اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: كُلُّ أَمْر ذِي بَال لَمْ يَذْكَر فِيهِ بِسْمِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ؟» فَقُلْتُ: بَلى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي لاَ أَتْرُكُهَا بَعْدَهَا، قَالَ: «إِذاً تحْظى بِذَلِكَ وَتسْعَدُ». وَقَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام) : «وَلَرُبَّمَا تَرَكَ فِي افْتِتَاحِ أَمْر بَعْضُ شِيعَتِنَا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَيَمْتَحِنُهُ اللهُ بِمَكْرُوه لِيُنَبِّهَهُ عَلى شُكْرِ اللهِ تَعَالى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَيَمْحُو فِيهِ عَنْهُ وَصمَةَ تَقْصِيرِهِ عِنْدِ تَرْكِهِ قَوْلَ بِسْمِ اللهِ». بحوث 1 - هل البسملة جزء من السّورة؟ أجمع علماء الشيعة على أنّ البسملة جزء من سورة الحمد وكلّ سور القرآن، وكتابتها في مطالع السور أفضل شاهد على ذلك، لأنّنا نعلم أن النصّ القرآني مصون عن أيّة اضافة، وذكر البسملة معمول به منذ زمن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). أمّا علماء السنّة فاختلفوا في ذلك، وصاحب المنار يجمع أقوالهم فيما يلي: «أجمع المسلمون على أن البسملة من القرآن وأنها جزء آية من سورة النمل. واختلفوا في مكانها من سائر السور، فذهب إلى أنّها آية من كل سورة علماء السلف من أهل مكة - فقهاؤهم وقراؤهم - ومنهم: ابن كثير. وأهل الكوفة ومنهم عاصم والكسائي من القراء، وبعض الصحابة والتابعين من أهل المدينة، والشافعي في الجديد وأتباعه، والثوري وأحمد في أحد قوليه، والإِمامية، ومن المروي عنهم ذلك من علماء الصحابة عليّ وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة، ومن علماء التابعين سعيد بن جبير وعطاء والزهري وابن المبارك. وأقوى حججهم في ذلك إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل سورة سوى سورة البراءة (التوبة) مع الأمر بتجريد القرآن عن كل ما ليس منه. ولذلك لم يكتبوا (آمين) في آخر الفاتحة...». ثم ينقل عن مالك والحنفية وآخرين، أنّهم ذهبوا إلى أنّ البسملة آية مستقلّة نزلت لبيان رؤوس السور والفصل بينها. وعن حمزة من قرّاء الكوفة وأحمد «الفقيه السنّي المعروف» أنّها من الفاتحة دون غيرها من سور القرآن. ومن مجموع ما ذكر يستفاد أنّ الأكثرية الساحقة من أهل السنة يرون أنّ البسملة جزء من السّورة كذلك. ننقل هنا طائفة من الروايات المنقولة في هذا الصدد بطرق الشيعة والسنة، وبالقدر الذي يتناسب مع هذا البحث التّفسيري: 1 - عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّار قَالَ: قُلْتُ لاَِبي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) : إذا قُمْتُ لِلصَّلاَةِ أقْرَأُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فِي فاتِحَةِ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: فَإِذا قَرَأْتُ فَاتِحَةَ الْقُرْآنِ أَقْرَأُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَعَ السُّورَةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ». 2 - ما أخرجه الدارقطني بسند صحيح عن علي (عليه السلام) : «أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ السَّبْعِ الْمَثَانِي، فَقَالَ: اَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا هِيَ سِتُّ آيَات فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية». 3 - روى البيهقي بسنده عن ابن جبير، عن ابن عباس، قال: «إِسْتَرَقَ الشَّيطانُ مِنَ النَّاسِ أَعْظَمَ آيَة مِنَ الْقُرْآنِ: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم: (إشارة إلى شيوع عدم قراءتها في مطالع السور). أضف إلى ذلك، أنّ سيرة المسلمين جرت دوماً على قراءة البسملة في مطالع السور لدى تلاوة القرآن، وثبت بالتواتر قراءة النّبي لها. وكيف يمكن أن تكون أجنبية عن القرآن والنّبي والمسلمون يواظبون على قراءتها لدى تلاوتهم القرآن؟! وأمّا ما ذهب إليه بعضهم من احتمال أنّ البسملة آية مستقلّة وليست جزءً من سور القرآن، فهو احتمال واه ضعيف، لأن مفهوم البسملة يشعر ببداية العمل، ولا يفصح عن معنى منفصل مستقل. وفي اعتقادنا أنّ الإِصرار على فصل البسملة عن السور تعصّب لا مبرر له، ولا ينهض عليه دليل، في حين أنّ مضمونها مسفر عن أنّها بداية لما بعدها من الأبحاث. يبقى إيراد واحد، هو أنّ البسملة لا تحتسب في عدّ آيات سور القرآن (عدا بسملة سورة الحمد)، بل يبدأ العدّ من الآية التالية للبسملة. والجواب على ذلك ما ذكره (الفخر الرازي) في تفسيره الكبير، إذ قال: لا يمنع أن تكون البسملة لوحدها آية في سورة الحمد، وأن تكون جزءً من الآية يالاُولى في سائر سور القرآن (أي أنّ مطلع سورة الكوثر مث: بسم الله الرحمن الرحيم إنّا أعطيناك الكوثر) يعتبر كلّه آية واحدة. والمسألة - على أيّ حال - واضحة إلى درجة كبيرة حتى روي: أنَّ مُعَاوِيَةَ صَلّى بِالنّاسِ في فَتْرَةِ حُكُومَتِهِ فَلَمْ يَقْرَأْ اَلْبسْمَلَةَ، فَصَاحَ جَمْعٌ مِنَ الْمُهاجِرينَ وَالاَْنْصَارِ بَعْدَ الصَّلاَةِ: أَسَرَقْتَ أَمْ نسِيتَ؟. 2 - لفظ الجلالة جامع لصفاته تعالى: كلمة (اسم) أول ما تطالعنا في البسملة من كلمات، وهو في رأي علماء اللغة من (السموّ) على وزن (العُلوّ)، ومعناه الإِرتفاع، ويفهم أن الشيء بعد التسمية يخرج من مرحلة الخفاء إلى مرحلة البروز والظهور والرقي، أو إنّه يرتفع بالتسمية عن مرحلة الإِهمال ويكتسب المعنى والعلو. بعد كلمة الاسم نلتقي بكلمة (الله) وهي أشمل أسماء ربّ العالمين فكل اسم ورد لله في القرآن الكريم وسائر المصادر الإِسلامية يشير إلى جانب معين من صفات الله. والاسم الوحيد الجامع لكل الصفات والكمالات الإِلهية أو الجامع لكل صفات الجلال والجمال هو (الله). ولذلك اعتبرت بقية الإسماء صفات لكلمة (الله) مثل: (الغفور) و(الرحيم) و(السميع) و(العليم) و(البصير) و(الرزاق) و(ذو القوة) و(المتين) و(الخالق) و(الباري) و(المصوّر). كلمة (الله) هي وحدها الجامعة، ومن هنا اتّخذت هذه الكلمة صفات عديدة في آية كريمة واحدة، حيث يقول تعالى: ﴿هُوَ اللّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الّقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزيرُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ أحد شواهد جامعية هذا الاسم أنّ الإِيمان والتوحيد لا يمكن إعلانه إلاّ بعبارة (لا إله اِلاّ الله)، وعبارة (لاَ إِلهَ إلاَّ القَادِر... أو إِلاَّ الخالِق... أو إِلاَّ الرَّزَّاق﴾ لا تفي بالغرض. ولهذا السبب يشار في الأديان الاُخرى إلى معبود المسلمين باسم (الله) فهذه التسمية الشاملة خاصة بالمسلمين. 3 - الرّحمة الإِلهية الخاصة والعامّة: المشهور بين جماعة من المفسّرين أنّ صفة (الرحمن) تشير إلى الرحمة الإِلهية العامة، وهي تشمل الأولياء والأعداء، والمؤمنين والكافرين، والمحسنين والمسيئين، فرحمته تعمّ المخلوقات، وخوان فضله ممدود أمام جميع الموجودات، وكلّ العباد يتمتعون بموهبة الحياة، وينالون حظهم من مائدة نعمه اللامتناهية. وهذه هي رحمته العامة الشاملة لعالم الوجود كافة وما تسبّح فيه من كائنات. وصفة (الرحيم) إشارة إلى رحمته الخاصة بعباده الصالحين المطيعين، قد استحقوها بإيمانهم وعملهم الصالح، وَحَرُمَ منها المنحرفون والمجرمون. الأمر الذي يشير إلى هذا المعنى أنّ صفة (الرحمن) ذكرت بصورة مطلقة في القرآن الكريم ممّا يدل على عموميتها، لكنّ صفة (الرحيم) ذكرت أحياناً مقيّدة، لدلالتها الخاصة، كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنينَ رَحِيماً﴾ وأحياناً اُخرى مطلقة كما في هذه السّورة. وفي رواية عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) قَالَ: «وَالله إلهُ كُلِّ شَيْء الرَّحْمنُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ، الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنينَ خَاصَّةً». يمن جهة اُخرى، كلمة (الرحمن) اعتبروها صيغة مبالغة، ولذلك كانت دلي آخر على عمومية رحمته. واعتبروا (الرحيم) صفة مشبّهة تدلّ على الدوام والثبات، وهي خاصة بالمؤمنين. وثمّة دليل آخر، هو إنّ (الرحمن) من الأسماء الخاصة بالله، ولا تستعمل لغيره، بينما (الرحيم) صفة تنسب لله ولعباده. فالقرآن وصف بها الرّسول الكريم، حيث قال: ﴿عَزِيزٌ عليه مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ بِالْمُؤْمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾. وإلى هذا المعنى أشار الإِمام الصادق (عليه السلام) ، فيما روي عنه: (اَلرَّحْمنُ إِسْمٌ خَاصٌّ بصِفَة عَامَّة، وَالرَّحيمُ عَامٌّ بِصِفَة خَاصَّة». ومع كل هذا، نجد كلمة (الرحيم) تستعمل أحياناً كوصف عام. وهذا يعني أن التمييز المذكور بين الكلمتين إنما هو في جذور كل منهما، ولا يخلو من استثناء. في دعاء عرفة - المنقول عن الحسين بن علي (عليه السلام) - وردت عبارة: «يَا رَحْمنَ الدُّنْيِا وَالاْخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا». نختتم هذا الموضوع بحديث عميق المعنى، عن رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «إِنَّ للهِ عَزَّ وَجَلّ مائَةَ رَحْمَة، وَإِنَّهُ أَنْزَلَ مِنْهَا واحِدَةً إِلَى الأَرْضِ، فَقَسَّمَهَا بَيْنَ خَلْقِهِ، بِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَيَتَرَاحَمُونَ، وَأَخَّرَ تِسْعاً وَتِسْعِينَ لِنَفْسِهِ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». لِمَ لَمْ تَرِدْ بَقية صِفاتِ اللهِ في البَسْمَلَةِ؟ في البسملة ذكرت صفتان لله فقط هما: الرحمانية والرحيمية، فما هو السبب؟ الجواب يتضح لو عرفنا أنّ كل عمل ينبغي أن يبدأ بالاستمداد من صفة تعم آثارها جميع الكون وتشمل كلّ الموجودات، وتنقذ المستغيثين في اللحظات الحساسة. هذه حقيقة يوضّحها القرآن إذ يقول: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيء﴾، ويقول على لسان حملة العرش: ﴿رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَحْمَةً﴾. ومن جانب آخر نرى الأنبياء وأتباعهم يتوسّلون برحمة الله في المواقف الشديدة الحاسمة. فقوم موسى تضرّعوا إلى الله أن ينقذهم من تجبّر فرعون وظلمه، وتوسّلوا إليه برحمته فقالوا: ﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ﴾. وبشأن هود وقومه، يقول القرآن: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحمَة منَّا﴾. من الطبيعي أنّنا - حين نتضرّع إلى الله - نناديه بصفات تتناسب مع تلك الحاجة، فعيسى (عليه السلام) حين يطلب من الله مائدة من السماء، يقول: ﴿اللّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائدَةً مِنَ السَّمَاءِ... وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. ونوح (عليه السلام) يدعو الله في حطّ رحاله: ﴿يرَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَ مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾. وزكريا نادى ربّه لدى طلب الولد الوارث قال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾. للبدء بأيّ عمل ينبغي - إذن - أن نتوسّل برحمة الله الواسعة، رحمته العامة ورحمتة الخاصة. وهل هناك أنسب من هذه الصفة لتحقّق النجاح في الأعمال، وللتغلب على المشاكل والصعاب؟! والقوة التي تستطيع أن تجذب القلوب نحو الله وتربطها به هي صفة الرحمة، إذ لها طابعها العام مثل قانون الجاذبية، ينبغي الإِستفادة من صفة الرحمة هذه لتوثيق العرى بين المخلوقين والخالق. المؤمنون الحقيقيون يطهّرون قلوبهم بذكر البسملة في بداية كلّ عمل من كل علقة وإرتباط، ويرتبطون بالله وحده ويستمدّون منه العون، ويتوسلون إليه برحمته التي وسعت كلّ شيء. والبسملة أيضاً تعلّمنا أنّ أفعال الله تقوم أساساً على الرحمة، والعقاب له طابع استثنائي لا ينزل إلاّ في ظروف خاصة، كما نقرأ في الأدعية المروية عن آل بيت رسول الله: «يَا مَنْ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ» المجموعة البشرية السائرة على طريق الله ينبغي أن تقيم نظام حياتها على هذا الأساس أيضاً، وأن تقرن مواقفها بالرحمة والمحبة، وأن تترك العنف إلى المواضع الضرورية، «113» سورة من مجموع «114» سورة قرآنية تبدأ بالتأكيد على رحمة الله، وسورة التوبة وحدها تبدأ بإعلان الحرب والعنف بدل البسملة. ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ آية من الفاتحة ومن كل سورة بإجماعنا ونصوصنا والباء للاستعانة أو المصاحبة والاسم من السمو أو من السمة ولم يقل بالله لأن التبرك باسمه وليعم كل أسمائه و﴿اللّهِ﴾ أصله إله حذفت الهمزة وعوضت عنها أداة التعريف وهو علم شخصي للذات المقدس الجامع لكل كمال و﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ صفتان مشبهتان من رحم بالكسر ووصف تعالى بهما باعتبار غايتهما والرحمن أبلغ لاقتضاء زيادة المباني زيادة المعاني أما باعتبار الكم لكثرة أفراد المرحومين وقلتها وعليه حمل يا رحمان الدنيا لشمول المؤمن والكافر ورحيم الآخرة للاختصاص بالمؤمن أو باعتبار الكيف وعليه حمل يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما لجسامة نعم الآخرة كلها بخلاف نعم الدنيا، وإنما قدم الرحمن ومقتضى الترقي العكس لصيرورته بالاختصاص كالواسطة بين العلم والوصف فناسب توسيطه بينهما أو لأن الملحوظة في مقام التعظيم جلائل النعم وغيرها كالتتمة فقدم وأردف بالرحيم للتعميم تنبيها على أن جلائلها ودقائقها منه تعالى وخص البسملة بهذه الأسماء إعلاما بأن الحقيق بأن يستعان به في مجامع الأمور وهو المعبود الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها المولى للنعم كلها.