فلذلك يقول سبحانه عنهم في الآية التالية: (أُولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار) ليزول كل أثر اُخروي لما عملوا في هذه الدنيا ولا ينالون عليه أي ثواب (وحبط ما صنعوا فيها) وكل ما كان لغير الله فسيزول أثره (وباطل ما كانوا يصنعون).
"الحَبْط" في الأصل يطلق على حالة خاصّة من أكل الحيوانات للعلف بشكل غير طبيعي، فتنتفخ بُطونها ويتعطل الجهاز الهضمي عندها فتبدو وكأنّها قد سمنت ولكنّها في الباطن وفي الحقيقة مريضة.
هذا التعبير الطريف يقال للأعمال التي تبدو في الظاهر مفيدة وإنسانية، إلاّ أنّها في الباطن مقرونة بنية ذميمة وخبيثة!
ملاحظات
1 - من الممكن أن يُتصور في البداية أنّ الآيتين محل البحث متعارضتان، فالآية الأُولى تقول: إِن من كان هدفه الحياة الدنيا فإِنّه سينال جزاءه فيها كاملا غير منقوص (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إِليهم أعمالهم فيها وهم فيها لايبخسون) أمّا الآية الثّانية فتقول إِن أعماله تكون بلا أثر وباطلة: (وحبط ما صنعوا فيها وباطل ماكانوا يعملون).
ولكن مع الإِلتفات إِلى أن إِحدى الآيتين تشير إِلى مايجري في الدنيا والثّانية تشير إِلى الدار الآخرة، يتّضح الجواب على هذا الإِشكال، وهو أنّهم ينالون جزاء أعمالهم في هذه الدنيا، ولكن لا قيمة لهذا العمل حتى ولو كان من أهم الأعمال - إِذا لم يكن لها في الآخرة أيُّ أثر.
لأنّ هدفهم لم يكن نقيّاً ونيّتهم غير خالصة، حيث كانوا يسعون لتحصيل سلسلة من المنافع المادية، وقد تحققت لهم في الدنيا.
2 - ذكر كلمة "الزينة" بعد "الحياة الدنيا" تدلّ ذم عبادة الدنيا وزخرفها وزبرجها، وليس المقصود من ذلك الإِستفادة باعتدال من مواهب هذا العالم!
فكلمة "الزينة" التي جاءت هنا ببيان مغلق، إلاّ أنّها في آيات أُخرى فُسرت بالنساء الجميلات والكنوز والمراكب والزخارف.. الخ.
(زُين للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث) (1) ((2)).
3 - ذكر كلمة "الباطل" بعد كلمة "الحبط" يمكن أن تكون إِشارة إِلى أن أعمالهم لها ظاهر بدون محتوى، ولذلك تذهب نتيجتها أدراج الرياح.
ثمّ يضيف أن أعمالهم اساساً باطلة من البداية ولا خاصية لها، غاية ما في الأمر إنّ كثيراً من حقائق الأُمور لما كانت في الدنيا غير معروفة فإِنّها تنكشف في الدار الآخرة التي هي محل كشف الأسرار، فيتّضح أنّ هذه الأعمال لم يكن لها قيمة منذ البداية!.
4 - في كتاب "الدر المنثور" حديث منقول عن النّبي (ص) في تفسير هذه الآيات يبيّن مفاد هذه الآيات بجلاء "قال رسول الله (ص): "إِذا كان يوم القيامة صارت أُمتي على ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصاً، وفرقة يعبدون الله رياءً.
فرقة يعبدون الله يصيبون به دُنيا".
فيقول للذي كان يعبد الله للدنيا: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟
فيقول: الدنيا، فيقول: لاجرم لا ينفعك ما جمعت ولا ترجع إِليه.
انطلقوا به إِلى النّار.
ويقول للذي يعبد الله رياءً: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟
قال: الرياء، فيقول: إِنّما كانت عبادتك التي كنت ترائي بها لا يصعد إِلي منها شيء ولا ينفعك اليوم، انطلقوا به إِلى النّار.
ويقول للذي كان يعبد الله خالصاً: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟
فيقول: بعزّتك وجلالك لأنت أعلم منّي، كنت أعبدك لوجهك ولدارك، قال: صدق عبدي، انطلقوا به إِلى الجنّة" (3).
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ﴾ بطل ﴿مَا صَنَعُواْ فِيهَا﴾ في الآخرة فلا ثواب لهم لأنهم لم يريدوا به وجه لله ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ لأنه لا لغير الله.