التّفسير
شروع الطّوفان:
رأينا في الآيات المتقدمة كيف صنع نوح (ع) وجماعته المؤمنون سفينة النجاة بصدق.
وواجهوا جميع المشاكل واستهزاء الأكثرية من غير المؤمنين، وهيأوا أنفسهم للطوفان، ذلك الطوفان الذي طهّر سطح الأرض من لوث المستكبرين الكفرة.
والآيات - محل البحث - تتعرض لموضوع ثالث، وهو كيف كانت النهاية؟
وكيف تحقق نزول العذاب على القوم المستكبرين، فتبيّنه بهذا التعبير (حتى إِذا جاء أمرنا وفار التنّور).
التَنّوُر: بتشديد النون، هو المكان الذي ينضج الخبز فيه بعد أن كان عجيناً.
لكن ما مناسبة فوران الماء في التنور واقتراب الطوفان؟
إختلف المفسّرون فكانت لهم أقوال كثيرة في ذلك..
قال بعضهم: كان العلامة بين نوح وربّه لحلول الطوفان أن يفور التنّور، ليلتفت نوح وأصحابه إِلى ذلك فيركبوا في السفينة مع وسائلهم وأسبابهم.
وقال جماعة آخرون: إِنّ كلمة "التنور" استعملت هنا مجازاً وكنايةً عن غضب الله، ويعني أن غضب الله اشتدّت شعلته وفار، فهو إشارة الى اقتراب حلول العذاب المدمّر، وهذا التعبير مطرّد حيث يشبّهون شدّة الغضب بالفورة والإِشتعال!
ولكن يبدو أنّ احتمال أن يكون التنور قد استعمل بمعناه الحقيقي المعروف أقوى، والمراد بالتنّور ليس تنّوراً خاصّاً، بل المقصود بيان هذه المسألة الدقيقة، وهي أن حين فار التنّور بالماء - وهو محل النّار عادةً - التفت نوح (ع) وأصحابه إِلى أن الأوضاع بدأت تتبدل بسرعة وأنّه حدثت المفاجأة، فأين "الماء من النّار"؟!
وبتعبير آخر: حين رأوا أنّ سطح الماء ارتفع من تحت الأرض وأخذ يفور من داخل التنور الذي يُصنع في مكان يابس ومحفوظ، من الرطوبة علموا أن أمراً مهمّاً قد حدث وأنّه قد ظهر في التكوين أمر خطير، وكان ذلك علامة لنوح (ع) وأصحابه أن ينهضوا ويتهيأوا.
ولَعَلّ قوم نوح الغافلين رأوا هذه الآية.
وهي فوران التنور بالماء في بيوتهم ولكن غضوا أجفانهم وصمّوا آذانهم كعادتهم عند مثل العلائم الكبيرة حتى أنّهم لم يسمحوا لأنفسهم بالتفكير في هذا الأمر وأن إِنذارات نوح حقيقية.
في هذه الحالة بلغ الأمر الإِلهي نوحاً (وقلنا أحمل فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول ومن آمن).
لكنْ كم هم الذين آمنوا معه؟
(وما آمن معه إلاّ قليل).
هذه الآية تشير من جهة إِلى امرأة نوح وابنه كنعان - اللذين ستأتي قصتهما في الآيات المقبلة - وقد قطعا علاقتهما بنوح على أثر انحرافهما وتآمرهما مع المجرمين، فلم يكن لهما حق في ركوب السفينة ليكونا من الناجين، لأنّ الشرط الأوّل للركوب كان هو الإِيمان.
وتشير الآية من جهة أُخرى إِلى أنّ ثمرة جهاد نوح (ع) بعد هذه السنين الطوال والسعي الحثيث المتواصل في التبليغ لدعوته، لم يكن سوى هذا النفر المؤمن القليل!
بعض الرّوايات تقول أنّه استجاب لنوح خلال هذه الفترة الطويلة ثمانون شخصاً فقط، وتشير بعض الرّوايات الأُخرى إِلى عدد أقل من ذلك، وهذا الأمر يدل على ما كان عليه هذا النّبي العظيم نوح (ع) من الصبر والإِستقامة "في درجة قصوى بحيث كان معدل مايبذله من جهد لهداية شخص واحد عشر سنوات تقريباً، هذا التعب الذي لا يبذله الناس حتى لأولادهم!.
﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا﴾ بتعذيبهم ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ ارتفع الماء منه عنهم (عليهم السلام) إن فور الماء من التنور كان ميعادا بينه وبين ربه في إهلاك قومه ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا﴾ في السفينة ﴿مِن كُلٍّ﴾ من كل نوع من الحيوان ﴿زَوْجَيْنِ﴾ اثنين ذكرا وأنثى على قراءة التنوين وعلى الإضافة معناه من كل زوجين ذكر وأنثى من جميع أنواعهما احمل ﴿اثْنَيْنِ﴾ ذكرا وأنثى ﴿وَأَهْلَكَ﴾ واحمل أهلك وهم زوجته وبنوه ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ الوعد بإهلاكه وهو ابنه كنعان ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ من غيرهم ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ قيل كانوا ثمانين وقيل أقل.