التّفسير:
مدين بلدة شعيب...
مع انتهاء قصّة قوم لوط تصل النوبة إلى قوم شعيب وأهل مدين، أُولئك الذين حادوا عن طريق التوحيد وهاموا على وجوههم في شركهم وعبادة الأصنام، ولم يعبدوا الأصنام فحسب، بل الدّرهم والدينار والثروة والمال، ومن أجل ذلك فإنّهم لوثوا تجارتهم الرابحة وكسبهم الوفير بالغش والبخس والفساد.
في بداية القصّة تقول الآيات (وإِلى مدين أخاهم شعيباً) وكلمة "أخاهم" كما أشرنا إِليها سابقاً تستعمل في مثل هذا التعبير لبيان منتهى المحبّة من قِبَل الأنبياء لقومهم، لا لأنّهم أفراد قبيلته وقومه فحسب، بل إِضافةً إلى ذلك فإنّه يريد الخيرَ لهم.
ويتحرق قلبه عليهم، فمثله مثل الأخ الودود.
و"مدين" على وزن "مريم" اسم لمدينة شعيب وقبيلته، وتقع المدينة شرق خليج العقبة، وأهلها من أبناء إِسماعيل، وكانوا يتاجرون مع أهل مصر ولبنان وفلسطين.
ويطلق اليوم على مدينة "مدين" اسم "معّان" ولكن بعض الجغرافيين أطلقوا اسم مدين على الساكنين بين خليج العقبة وجبل سيناء.
وورد في التوراة أيضاً اسم "مديان" ولكن تسمية لبعض القبائل، وطبيعي أنّ اطلاق الاسم على المدينة وأهلها أمر رائج(1).
هذا النّبي وهذا الأخ الودود المشفق على قومه - كأي نبيّ في أُسلوبه وطريقته في بداية الدعوة - دعاهم أوّلا إلى ما هو الأساس والعماد والمعتقد وهو "التوحيد" وقال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إِله غيره).
لأنّ الدعوة إلى التوحيد دعوة إلى هزيمة جميع "الطواغيت" والسُنَن الجاهلية ولا يتيسر أيّ إِصلاح اجتماعي أو أخلاقي بدونه.
ثمّ أشار إلى أحد المفاسد الإِقتصادية التي هي من افرازات عبادة الأصنام والشرك، وكانت رائجة عند أهل مدين يومئذ جدّاً، وقال: (ولا تنقصوا المكيال)أي حال البيع والشراء.
و"المكيال" و"الميزان" من ادوات الوزن يعرف بهما وزن المبيع ومقداره، ونقصانه يعني عدم إِيفاء حقوق الناس والبخس في البيع.
ورواج هذين الأمرين بينهم يدل على عدم النظم والحساب والميزان في أعمالهم ونموذجاً للظلم والجور والإجحاف في ذلك المجتمع الثري.
ويشير هذا النّبي العظيم بعد هذا الأمر إلى علّتين:
العلّة الأُولى: هي قوله (إِنّي أراكم بخير).
يقول أوّلا: إِنّ قبول نصحي يكون سبباً لتفتح أبواب الخير عليكم وتقديم التجارة وهبوط سطح القيمة واستقرار المجتمع.
ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الجملة (إِنّي أراكم بخير) أنّ شعيباً يقول لهم: إِنّي أراكم منعمين وفي خير كثير، فعلى هذا لا مدعاة لعبادة الأصنام وإضاعة حقوق الناس والكفر بدلا من الشكر على نعم الله سبحانه.
وثانياً: (وإِنّي أخاف عليكم عذاب يوم محيط) بسبب إِصراركم على الشرك والتطفيف في الوزن وكفران النعمة... الخ.
وكلمة "محيط" جاءت صفة ليوم، أي يوم شامل ذو إِحاطة، وشمول اليوم يعني شمول العذاب والعقاب في ذلك اليوم، وهذا التعبير فيه إِشارة إلى عذاب الآخرة كما يشير إلى عقاب الدنيا الشامل.
فعلى هذا لا أنتم بحاجة إلى مثل هذه الأعمال، ولا ربّكم غافل عنكم، فينبغي اِصلاح أنفسكم عاجلا.
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ﴾ نسبأ ﴿شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ كانوا مع شركهم يطففون فأمرهم بالتوحيد وأنهاهم عن التطفيف ﴿إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ﴾ بسعة تغنيكم عن البخس أو بنعمة فلا تزيلوها به ﴿وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ إن لم تتوبوا ﴿عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ لا يفلت منه أحد.