لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
المباديء الأوليّة للإقتصاد الإسلامي: هذه الآية الكريمة تشير إلى أحد الاُصول المهمّة والكليّة للإقتصاد الإسلامي الحاكمة على مجمل المسائل الإقتصاديّة، بل يمكن القول إنّ جميع أبواب الفقه الإسلامي في دائرة الإقتصاد تدخل تحت هذه القاعدة ولذا نلاحظ أنّ الفقهاء العظام تمسّكوا بهذه الآية في مواضع كثيرة في الفقه الإسلامي وهو قوله تعالى (ولا تأكلوا أَموالكم بينكم بالباطل). أمّا المراد من "الباطل" في هذه الآية الشريفة فقد ذكر له عدّة تفاسير، ذهب أحدها إلى أنّ معناه الأموال الّتي يستولي عليها الإنسان من طريق الغصب والعدوان، وذهب آخرون أنّ المراد هو الأموال الّتي يحصل عليها الشّخص من القمار وأمثاله. ويرى ثالث أنّها إشارة إلى الأموال الّتي يكتسبها الشخص بواسطة القَسَم الكاذب (وأشكال الحيل في المعاملات والعقود التّجاريّة). ولكنّ الظاهر أنّ مفهوم الآية عام يستوعب جميع ما ذكرنا من المعاني للباطل لأنّ الباطل يعني الزّائل وهو شامل لما ذكر من المعاني، فلو ورد في بعض الرّوايات- كما عن الإمام الباقر (عليه السلام)أنّ معناه (القسم الكاذب) أو ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)في تفسيره بـ (القمار) فهو في الواقع من قبيل المصاديق الواضحة له. فعلى هذا يكون كلّ تصرّف في أموال الآخرين من غير الطريق المشروع مشمولاً لهذا النهي الإلهي. وكذلك فهكذا أنّ جميع المعاملات الّتي لا تتضمّن هدفاً سليماً ولا ترتكز على أساس عقلائي فهي مشمولة لهذه الآية. ونفس هذا المضمون ورد في سورة النساء الآية 29 مع توضيح أكثر حيث تخاطب المؤمنين (يا أيُّها الَّذينَ آمَنوُا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُم بَينكُمْ بِالبِاطِلِ إلاّ تكونَ تجارةً عَن تراض مِنْكُمْ). إنّ إستثناء التّجارة المقترنة مع التراضي هو في الواقع بيان لمصداق بارز للمعاملات المشروعة والمبّاحة، فلا تنفي الهبة والميراث والهديّة والوصيّة وأمثالها، لأنّها تحققّت عن طريق مشروع وعقلائي. والملفت للنظر أنّ بعض المفسّرين قالوا: أنّ جعل هذه الآية مورد البحث بعد آيات الصوم (آيات 182- 187) علامة على وجود نوع من الإرتباط بينهما، فهناك نهيٌ عن الأكل والشرب من أجل أداء عبادة إلهيّة، وهنا نهيٌ عن أكل أموالالناس بالباطل الّذي يعتبر أيضاً نوع من الصوم ورياضة النفوس، فهما في الواقع فرعان لأصل التقوى. ذلك التقوى الَّذي ورد في الآية بعنوان الهدف النّهائي للصوم. ولابدّ من ذكر هذه الحقيقة وهي أنّ التعبير بـ (الأكل) يُعطي معناً واسعاً حيث يشمل كلّ أنواع التصرّفات، أي أنه تعبير كنائي عن أنواع التصرّفات، و (الأكل) هو أحد المصاديق البارزة له. ثمّ يشير في ذيل الآية إلى نموذج بارز لأكل المال بالباطل والّذي يتصوّر بعض الناس أنّه حقّ وصحيح لأنّهم أخذوه بحكم الحاكم فيقول: (وتُدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)(1). (تدلوا) من مادّة (إدلاء)، وهي في الأصل بمعنى إنزال الدلو في البئر لإخراج الماء، وهو تعبير جميل للموارد الّتي يقوم الإنسان فيها بتسبيب الأسباب لنيل بعض الأهداف الخاصّة. وهناك إحتمالان في تفسير هذه الجملة: الأول: هو أن يكون المراد أن يقوم الإنسان بإعطاء قسماً من ماله إلى القضاة على شكل هديّة أو رشوة (وكليهما هنا بمعنىً واحد) ليتملّك البقيّة، فالقرآن يقول: إنّكم بالرّغم من حصولكم على المال بحكم الحاكم أو القاضي ظاهراً، ولكنّ هذا العمل يعني أكلٌ للمال بالباطل، وهو حرام. الثّاني: أن يكون المراد أنّكم لا ينبغي أن تتحاكموا إلى القضاة في المسائل الماليّة بهدف وغرض غير سليم، كأن يقوم أحد الأشخاص بإيداع أمانة أو مال ليتيم لدى شخص آخر من دون شاهد، وعندما يطالبه بالمال يقوم ذلك الشخص بشكايته لدى القاضي، وبما أنّ المودع يفتقد إلى الشاهد فسوف يحكم القاضي لصالح الطرف الآخر، فهذا العمل حرام أيضاً وأكلٌ للمال بالباطل. ولا مانع من أن يكون لمفهوم الآية هذه معناً واسعاً يشمل كلا المعنيين في جملة (لا تدلوا)، بالرغم من أنّ كلّ واحد من المفسرين ارتضى أحد هذين الإحتمالين. والملفت للنظر أنّه ورد حديث عن رسول الله (ص) يقول: "إنّما أنا بشر وإنّما يأتيني الخصم فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له فإن قضيت له بحق مُسلّم فإنّما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها"(2) أي لا تتصوروا أنه من أمواله ويحل له أكله لأن رسول الله حكم له بهذا المال، بل هي قطعة من نار. بحث وباء الرشوة: من الأوبئة الإجتماعية التي ابتلي بها البشر منذ أقدم العصور وباء الإرتشاء، وكانت هذه الظاهرة المرضيّة دوماً من موانع إقامة العدالة الإجتماعية ومن عوامل جرّ القوانين لصالح الطبقات المقتدرة، بينما سُنّت القوانين لصيانة مصالح الفئات الضعيفة من تطاول الفئات القوية عليهم. الأقوياء قادرون بما يمتلكونه من قوّة أن يدافعوا عن مصالحهم، بينما لا يملك الضعفاء إلاَّ أن يلوذوا بالقانون ليحميهم، ولا تتحقّق هذه الحماية في جوّ الإرتشاء، لأنّ القوانين ستصبح أُلعوبةً بيد القادرين على دفع الرشوة، وسيستمر الضعفاء يعانون من الظلم والإعتداء على حقوقهم. ولهذا شدّد الإسلام على مسألة الرشوة وأدانها وقبّحها واعتبرها من الكبائر، فهي تفتّت الكيان الإجتماعي، وتؤدي إلى تفشّي الظلم والفساد والتمييز بين الأفراد في المجتمع الإنساني، وتصادر العدالة من جميع مؤسّساته. جدير بالذكر أنّ قبح الرشوة قد يدفع بالراشين إلى أن يغطّوا رشوتهم بقناع من الأسماء الأُخرى كالهدية ونظائرها، ولكن هذه التغطية لا تغيّر من ماهيّة العمل شيئاً، والأموال المستحصلة عن هذا الطريق محرّمة غير مشروعة. وهذا "الأشعث بن قيس" يتوسّل بهذه الطريقة، فيبعث حلوى لذيذة إلى بيت أميرالمؤمنين علي (عليه السلام)أملاً في أن يستعطف الإمام تجاه قضية رفعها إليه، ويسمّي ما قدّمه هديّة، فيأتيه جواب الإمام صارماً قاطعاً، قال: "هبَلتك الهُبول، أعَنْ دين الله أتيتني لتخدعني؟... والله لو اُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصِيَ الله في نملة أسلبُها جَلبَ شعيرة ما فعلته، وأنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمُها. ما لِعليّ ونعيم يفنى ولذّة لا تبقى؟!..." الإسلام أدان الرشوة بكلّ أشكالها، وفي السيرة أنّ واحداً ممّن ولاَّه رسول الله(ص) قَبِلَ رشوة قدِّمت إليه بشكل هدية، فقال له الرسول: "كيف تأخذ ما ليس لك بحق؟!" قال: كانت هدية يا رسول الله. قال: "أرايت لو قعد أحدكم في داره ولم نولّه عَمَلاً أكان الناسُ يهدونه شيئاً؟!"(3). ومن أجل أن يصون الإسلام القضاة من الرشوة بكلّ أشكالها الخفيّة وغير المباشرة، أمر أن لا يذهب القاضي بنفسه إلى السوق للشراء، كي لا يؤثّر فيه بائع من الباعة فيبيعه بضاعة بثمن أقل، ويكسب على أثرها تأييد القاضي في المرافعة. أين المسلمون اليوم من هذه التعاليم الدقيقة الصارمة الهادفة إلى تحقيق العدالة الإجتماعية بشكل حقيقيّ عمليّ في الحياة؟! إن مسألة الرشوة مهمّة في الإسلام إلى درجة أن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول عنها: "وأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم"(4). وورد في الحديث النبوي المعروف: "لعن الله الراشي والمرتشي والماشي بينهما" ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم﴾ لا يأكل بعضكم مال بعض ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ بالوجه الذي لم يشرعه الله ﴿وَتُدْلُواْ بِهَا﴾ عطف على تأكلوا أي ولا تلقوا أمرها ﴿إِلَى الْحُكَّامِ﴾ بالجور ﴿لِتَأْكُلُواْ﴾ بالتحاكم ﴿فَرِيقًا﴾ طائفة ﴿مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ﴾ بموجب الإثم كاليمين الكاذبة وشهادة الزور ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنكم مبطلون.