لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
(خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إِلاّ ما شاء ربّك أنّ ربّك فعال لما يريد وأمّا الذين سُعدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إِلاّ ما شاء ربّك عطاءً غير مجذوذ). ملاحظات 1 - هل أنّ السعادة والشقاوة ذاتيان؟ أراد البعض أن يثبت من الآيات المتقدمة - كما قلنا آنفاً - كون السعادة والشقاء ذاتيين، في حين أنّ الآيات المتقدمة لا تدل على هذا الأمر فحسب، بل تثبت بوضوح كون السعادة والشقاء اكتسابيين، إِذ تقول (فأمّا الذين شقوا) أو تقول (وأمّا الذين سُعدوا) فلو كان كل من الشقاء والسعادة ذاتيين لكان ينبغي أن يُقال "أمّا الأشقياء وأمّا السعداء" وما أشبه ذلك التعبير، ومن هنا يتّضح بطلان ما جاء في تفسير الفخر الرازي ممّا مؤداه: "إِنّ هذه الآيات تحكم من الآن أنّ جماعة في القيامة سعداء وجماعة أشقياء، ومن حكم الله عليه مثل هذا الحكم ويعلم أنه في القيامة إِمّا شقي أو سعيد، فمحال عليه أن يغير ذلك وإِلاّ للزم - في الآية - أن يكون ما أخبر الله به كذباً ويكون علمه جهلا!! وهذا محال".... فكل ذلك لا أساس له. وهذا هو الإِشكال المعروف على "علم الله" في مسألة الجبر والإِختيار والذي أُجيب عليه قديماً بأنه: إِذا لم نرد تحميل أفكارنا وآراؤنا المسبقة على آيات القرآن الكريم، فإنّ مفاهيمها تبدو واضحة، إِنّ هذه الآيات تقول: (يوم يأتي) يكون فيه جمع من الناس سعداء من خلال أعمالهم، وجمع آخر أشقياء بسبب أعمالهم، والله سبحانه يعلم من الذي اختار طريق السعادة باختياره، وبإرادته، ومن الذي خطا خطوات في مسير الشقاء بإِرادته. وهذا المعنى يعطي نتيجة معاكسة تماماً لما ذكره الرازي حيث أنّ الناس اذا كانوا مجبورين على هذا الطريق فإنّ علم الله سيكون جهلا (والعياذ بالله)، لأنّ الجميع اختاروا طريقهم وانتخبوه بإِرادتهم ورغبتهم. الشاهد في الكلام أنّ الآيات المتقدمة تتحدث عن قصص الأقوام السابقين، حيث عوقبت عقاباً جماعة عظيمة منهم - بسبب ظلمهم وانحرافهم عن جادة الحق والعدل، وبسبب التلوث بالمفاسد الأخلاقية الشديدة، والوقوف بوجه الأنبياء والقادة الإِلهيين - أليماً في هذه الدنيا... والقرآن يقص علينا هذه القصص من أجل إِرشادنا وتربيتنا وبيان طريق الحق من الباطل، وفصل مسير السعادة عن مسير الشقاء. وإِذا كنّا - أساساً - كما يتصوّر الفخر الرازي ومن على شاكلته - محكومين بالسعادة والشقاء الذاتيين، ونؤخذ دون إرادتنا بالسيئات أو الصالحات، فإنّ "التعليم والتربية" سيكونان لغواً وبلا فائدة... ومجيء الأنبياء ونزول الكتب السّماويّة والنصيحة والموعظة والتوبيخ والملامة والمؤاخذة والسؤال والمحاكمة والثواب... كل ذلك يُعدّ غير ذي فائدة، أو يُعدّ ظلماً. الاشخاص الذين يرون الناس مجبورين على عمل الخير أو الشرّ، سواءً كان هذا الجبر جبراً إِلهياً، أو جبراً طبيعياً، أو جبراً اقتصادياً، أو جبراً اجتماعياً متطرفون في عقيدتهم هذه في كلامهم فحسب، أو في كتاباتهم، ولكنّهم حتى أنفسهم لا يعتقدون - عند العمل - بهذا الإِعتقاد، ولهذا فلو وقع تجاوز على حقوقهم فإنّهم يرون المتجاوز مستحقاً للتوبيخ والملامة والمحاكمة والمجازاة... وليسوا مستعدين أبداً للإِغضاء عنه بحجة أنه مجبور على هذا العمل وأنّ من الظلم عقابه ومجازاته، أو يقولوا إِنه لم يستطع أن لا يرتكب هذا العمل لأنّ الله أراد ذلك، أو أنّ المحيط أجبره، أو الطبيعة... وهذا بنفسه دليل آخر على أنّ أصل الإِختيار فطري. وعلى كل حال لا نجد للجبر مسلكاً في أعمالنا اليومية يرتبط بهذه العقيدة، بل أعمال الناس جميعاً تصدر عنهم بصورة حرّة ومختارة وهم مسؤولون عنها. وجميع الأقوام في الدنيا يقبلون حرية الإِرادة، بدليل تشكيل المحاكم والإِدارات القضائية لمحاكمة المتخلفين. وجميع المؤسسات التربوية في العالم تقبل بهذا الأصل ضمناً، وهو أنّ الإِنسان يعمل بإرادته ورغبته، ويمكن بإرشاده وتعليمه وتربيته أن يتجنب الأخطاء والإِشتباهات والأفكار المنحرفة. 2 - واقع الانسان بين السعادة والشقاوة الطريف أنّ لفظ "شقوا" في الآيات المتقدمة ورد بصيغة المبني للمعلوم، ولفظ "سُعِدُوا"(1) ورد بصيغة المبني للمجهول، ولعل في هذا الإِختلاف في التعبير إِشارة لطيفة إلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الإِنسان يطوي طريق الشقاء بخطاه، ولكن لابدّ لطيّ طريق السعادة في الإِمداد والعون الإِلهي، وإِلاّ فإنّه لا يوفّق في مسيره، ولا شكّ أنّ هذا الإِمداد والعون يشمل أُولئك الذين يخطون خطواتهم الأُولى بإرادتهم واختيارهم فحسب وكانت فيهم اللياقة والجدارة لهذا الإِمداد. (فلاحظوا بدقة). 3 - مسألة الخلود في القرآن معنى "الخلود" لغة البقاء الطويل، كما جاء بمعنى الأبد أيضاً، فكلمة "الخلود" لا تعني الأبد وحده لأنّه تشمل كل بقاء طويل. ولكن ذُكرت في كثير من آيات القرآن مع قيود بفهم منها معنى الأبد، فمثلا في الآية (100) من سورة التوبة، والآية (11) من سورة الطلاق، والآية (رقم 9) من سورة التغابن، حين تذكر هذه الآيات أهل الجنّة تأتي بالتعبير عنهم (خالدين فيها أبداً)ومفهومها أبديّة الجنّة لهؤلاء، ما نقرأ في آيات القرآن الأُخرى وصف أهل النّار كالآية (169) من سورة النساء، والآية (23) من سورة الجن هذا التعبير أيضاً (خالدين فيها أبداً) وهو دليل على عذابهم الأبدي. وتعبيرات أُخرى مثل الآية (رقم 3) من سورة الكهف (ماكثين فيه أبداً) والآية (108) من سورة الكهف أيضاً (لا يبغون عنها حولا) وأمثالها تدل بصورة قطعيّة على أنّ طائفة من أهل الجنّة وطائفة من أهل النّار سيبقون في العذاب أو النعمة. ولم يستطع البعض أن يحل الإِشكالات في الخلود والجزاء الأبدي، فاضطر إلى الرجوع إلى معناه اللغوي وفسّره بالبقاء الطويل، على حين أنّ تعابير كالتعابير الوارده في الآيات المتقدمة لا تفسّر بمثل هذا التّفسير. سؤال مهم: هنا ترتسم في ذهن كل سامع علامة استفهام كبيرة، إِذ كيف نتصوّر عدم التعادل عند الله بين الذنب والعقاب؟! وكيف يمكن القبول بأنّ يقضي الإِنسان كل عمره الذي لا يتجاوز ثمانين سنة - أو مئة سنة على الاكثر بالعمل الصالح أو بالإثم، ثمّ يثاب على ذلك أو يعاقب ملايين الملايين من السنين. وهذا الأمر ليس مهماً بالنسبة للثواب لأنّ الأجر والثواب كلما ازداد كان دليلا على كرم المثيب والمعطي، فلا مجال للمناقشة في هذا الأمر. ولكن السؤال يَرِدُ في العمل السيء والذنب والظلم والكفر، وهو: "هل ينسجم العذاب الدائم مقابل ذنب محدود مع أصل العدل عندالله"؟ فالذي لم تتجاوز مرحلة ظلمه وطغيانه وعناده في أقصى ما يمكن احتماله مئة سنة، كيف يعذب في النّار عذاباً دائماً؟ أفلا تقتضي العدالة أن يكون هناك نوع من التعادل؟ فمثلا يعاقب مئة سنة بمقدار أعماله السيئة. الأجوبة غير المُقنِعَة إِنّ تعقيد المسألة كان السبب في توجيه معاني آيات الخلود عند البعض وتفسيرها بما لا يستفاد منه العقاب الدائم الذي هو على خلاف أصل العدالة في عقيدتهم.... 1 - ذهب البعض: إِنّ المقصود بـ"الخلود" هو المعنى المجازي أو الكنائي عنه، أي مدة وطويلة نسبيّاً، كما يقال مثلا لأُولئك الذين يحكم عليهم بالسجن طول عمره "محكوم عليه بالسجن المؤبد" مع أنّه من المسلم به لا أبديّة في السجن حيث ينتهي السجن، مع انتهاء ويقال في العربية أيضاً "يخلّد في السجن" وهو مأخوذ من الخلود في هذه الموارد. 2 - وقال آخرون: إِنّ أمثال هؤلاء الطغاة والمعاندين الذين اكتنفت وجودَهم الآثام، فتحوّل وجودُهم إلى ماهية الكفر أو الإِثم، هؤلاء وإِنّ بقوا في نار جهنم دائمين، إِلاّ أنّ جهنّم لا تبقى على حالها، فسيأتي يوم تنطفي نارها. كأية نار أُخرى، ويعم أهل النّار نوع من الهدوء والراحة. 3 - واحتمل آخرون أنّه مع مرور الزمان وبعد معاناة العذاب الطويل ينسجم أهل النّار مع محيطهم، أي أنهم يتطبّعون ويتعوّدون على هذا المحيط شيئاً فشيئاً حتى تبلغ بهم الحالة ألاّ يحسوا بالعذاب والشقاء. وبالطبع فإنّ الداعي إلى هذه التوجيهات هو عجزهم وعدم استطاعتهم أن يحلّوا مشكلة خلود العذاب ودوامه، وإِلاّ فإن ظهور آيات الخلود في ديمومة العذاب وبقائه غير قابلة للإِنكار. الحلّ النهائي للإِشكال ومن أجل حلّ هذا الإِشكال ينبغي أن نعود إلى البحوث السالفة ونعالج الإِشتباهات الناشئة من قياس مجازاة يوم القيامة بالمجازاة الأُخرى، ليعلم أنّ مسألة الخلود لا تنافي عدالة الله أبداً. ولتوضيح هذا البحث ينبغي الإِلتفات إلى ثلاثة أُصول: 1 - إنّ العذاب الدائم - وكما أشرنا إِليه من قبل - هو لأُولئك الذين أوصدوا أبواب النجاة بوجوههم، وأضحوا غرقى الفساد والإِنحراف عامدين، وغشى الظلّ المشؤوم للإِثم قلوبهم وأرواحهم فاصطبغوا بلون الكفر، وكما نقرأ عنهم في سورة البقرة الآية (81) (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأُولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون). 2 - يُخطىء من يتصور أنّ مدّة العقاب وزمانه ينبغي أن تكون على قدر مدّة الإرثم وزمانه، لأنّ العلاقة بين الإثم والعقاب ليست علاقة زمانية بل كيفية، أي أن زمان العقاب يتناسب مع كيفية الإِثم لا مع زمانه. فمثلا قد يقدم شخص في لحظة على قتل نفس محترمة، وطبقاً لما في بعض القوانين يحكم عليه بالحبس الدائم، فهنا نلاحظ أنّ زمن الإِثم لحظة واحدة، في حين أنّ العقاب قد يبلغ ثمانين سنة. إِذن المهم في الإِثم هو "كيفيته" لا "كمية زمانه". 3 - قلنا أنّ العقاب والمحاسبات في يوم القيامة لها أثر طبيعي للعمل وخصوصية الذنب، وبعبارة أوضح: إِن ما يجده المذنبون من ألم وأذى يوم القيامة هو نتيجة أعمالهم التي أحاطت بهم في الدنيا. نقرأ في القرآن كما في سورة يس الآية (54): (فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إِلاّ ماكنتم تعملون) ونقرأ في الآية (33) من سورة الجاثبة: (وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) وفي سورة القصص الآية(84): (فلا يُجزى الذين عملوا السيئات إِلاّ ما كانوا يعملون). والآن وبعد أن اتّضحت مقدمات هذه الأُصول، فإنّ الحل النهائي لهذا الإِشكال لم يُعد بعيداً، ويكفي للوصل إِليه أن نجيب على الأسئلة التالية. ولنفرض أنّ شخصاً يُبتلى بالقرحة المعدية نظراً لإِدمانه على المشروبات الكحولية لمدّة سبعة أيّام تباعاً، فيكون مجبوراً على تحمل الألم والأذى إلى آخر عمره، تُرى هل هذه المعادلة بين هذا العمل السيء ونتيجته مخالفة للعدالة؟! ولو كان عمر هذا الإِنسان (مكان الثمانين سنة) ألف سنة أو مليون سنة، ولأجل نزوته النفسية بشرب الخمر أسبوعاً يتألم طول عمره، تُرى هل هذا التألم لمليون سنة - مثلا - مخالف لأصل العدالة... في حين أنّه أُبلغ حال شرب الخمر بوجود هذا الخطر وأعلم بنتيجته؟ ولنفرض أيضاً أنّ سائق، سيارة لا يلتزم بأوامر المرور ومقرراته، والإِلتزام بها ينفع الجميع قطعاً ويقلل من الحوادث المؤسفة، لكنه يتجاهلها ولا يصغي لتحذير أصدقائه... وفي لحظة قصيرة تقع له حادثة - وكل الحوادث تقع في لحظه - ويفقد بذلك عينه أو يده أو رجله في هذه اللحظة. ونتيجة لما وقع يعاني الألم سنين طويلة لفقده البصر أو اليد أو الرجل، فهل تتنافى هذه الظاهرة فيه مع أصل عدالة الله؟! ونأتي هنا بمثال آخر - والأمثلة تقرب الحقائق العقليّة إلى الذهن وتُهيّىءُ لنيل النتيجة النهائية - فلنفرض أننا نثرنا على الأرض عدة غرامات من بذور الشوك، وبعد عدّة أشهر أو عدة سنوات نواجه صحراء مليئة بالشوك الذي يدمي أقدامنا و على العكس ننثر بذور الزهور - مع اطلاعنا - ولا تمرّ فترة حتى نواجه خميلة مليئة بالأزهار العطرة، فهي تعطرنا وتنعش قلوبنا، فهل في هذه الأُمور التي هي آثار لأعمالنا منافاة لأصل العدالة في حين أنّه لا مساواة بين كمية هذا العمل ونتيجته؟ ومن مجموع ما بيناه نستنتج ما يلي: حين يكون الجزاء والثواب نتيجة وأثراً لعمل المرء نفسه، فإنّ مسألة المساواة من حيث الكمية والكيفية لا تؤخذ بنظر الإِعتبار. فما أكثر ما يكون العمل صغيراً في الظاهر، ولكنه يحوّل حياة الانسان إلى جحيم وعذاب وألم طيلة العمر، وكذلك ما أكثر ما يكون العمل صغيراً في الظاهر، ولكنّه يكون سبباً للخيرات والبركات طيلة عمر الإِنسان! ينبغي أن لا يُتوهم أنّ المقصود من صغر العمل (من حيث مقدار الزمان) لأنّ الأعمال والذنوب الداعية إلى خلود الإِنسان في العذاب ليست صغيرة من حيث الأهمية والكيفيّة. فعلى هذا حين يحيط الذنب والكفر والطغيان والعناد بوجود الإِنسان ويحرق جميع أجنحته وريشه وروحه في نار ظلمه ونفاقه، فأي مكان للعجب أن يُحرم في الدار الآخرة من التحليق في سماء الجنّة وأن يكون مُبتلى هناك بالعذاب والبلاء. تُرى أمّا حذّروه وأبلغوه وأنذروه من هذا الخطر الكبير؟! أجل فأنبياء الله من جهة، وما يأمره العقل من جهة أُخرى... جميعاً حذروه بما يلزم، فهل كان ما أقدم عليه من دون اختياره فلقي هذا المصير، أم كان عن علم وعمد واختيار؟ الحقيقة هو أنّه كان عالماً عامداً. وكانت نفسه ونتيجة أعماله المباشرة قد ساقته إلى هذا المصير؟! بل إنّ كل ما حدث له فهو من آثار أعماله! فلهذا لم يبق مجال للشكوى، ولا إِيراد أو إِشكال مع أحد، ولا منافاة مع قانون عدالة الله سبحانه. 4 - مفهوم الخلود في هذه الآيات هل الخلود في الآيات - محل البحث - بمعنى البقاء الدائم؟! أو هو بالمعنى اللغوي المراد منه المدّة الطويلة؟ قال بعض المفسّرين: بما أنّ الخلود مقيد هنا بقوله (ما دامت السّماوات والأرض) فإنّ الخلود ليس معناه البقاء الأبدي الدائم، لأنّ السّماوات والأرض لا أبدية لهما... وطبقاً لصريح القرآن فإن يوماً سيأتي تنطوي فيه السّماوات وتبدل الأرض إلى أرض أُخرى.(2). ولكن، مع ملاحظة أنّ مثل هذه التعابير في اللغة العربية يراد بها البقاء الدائم، فالآيات - محل البحث - أيضاً تبيّن الدوام. فمثلا تقول العرب: هذا الأمر قائم ما لاح كوكب، أو ما كرّ الجديدان (الليل والنهار) أو ما أضاء فجر، أو ما اختلف الليل والنهار، وأمثالها... وهي كناية عن البقاء الدائم، ونقرأ عن الإِمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة وذلك حين أشكل عليه بعض المنتقدين الجهلة على تقسيمه من بيت المال بالسويّة وعدم التمييز بين مقامات الناس لتوطيد دفة الحكم. فانزعج الإِمام (عليه السلام) وقال: "أتأمرني أن أطلب النصر بالجور في من وليت عليه؟ والله لا أَطور به ما سمر سمير وما أمّ نجم في السّماء نجماً"(3). ونقرأ في قصيدة دعبل الخزاعي المعروفة التي أنشدها في حضرة الإِمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) هذا البيت: سأبكيهمُ ما ذرّ في الأفق شارق ***** ونادى منادي الخير في الصلوات(4) وبالطبع فإنّ هذا الاستعمال ليس مخصوصاً بلغة العرب وآدابها، ففي اللغات الأُخرى يوجد مثل هذا الاستعمال أيضاً... على كل حال فإنّ دلالة الآية على الدوام قطعية وغير قابلة للنقاش. 5 - ما معنى الإِستثناء في الآية؟ الجملة الإِستثنائية (إِلاّ ما شاء ربّك) التي وردت في الآيات المتقدمة في أهل الجنّة وفي أهل النّار أيضاً، أضحت ميداناً واسعاً للمفسرين ومثاراً للبحث، وقد نقل المفسّر الكبير الطبرسي في تفسير هذا الإِستثناء عشرة أوجه عن المفسّرين القدامى، ونعتقد أنّ كثيراً من هذه الأوجه ضعيف ولا ينسجم مع الآيات السابقة أو اللاحقة، ولذلك نغض النظر عنها، ونورد ما نراه صحيحاً هنا، هو وجهان فحسب: 1 - الهدف في بيان هذا الإِستثناء أن لا يُتصور أنّ الخلود في النّار أو في الجنّه جار على غير مشيئة الله وإِرادته بما يعطي معنى الالزام وتحديد قدرة الله تعالى وإرادته، بل في الوقت الذي يكون أهل الجنّة وأهل النار خالدين فيهما، فإنّ قدرة الله وإرادته حاكمة على الجميع، وأنّ العذاب والثواب يتحققان بمقتضى حكمته لكلّ من هذين الطرفين. والشاهد على هذا الكلام ما ورد في الجملة الثّانية بعد الإِستثناء وهي قوله تعالى: (عطاء غير مجذوذ) أي غير منقطع، وهو دليل على أنّ الجملة الإِستثنائية لبيان قدرته فحسب. 2 - وحيث تذكر الآيات هذين الطرفين (فمنهم شقي وسعيد) فليس الأشقياء هم الكفار المستحقين للخلود في النّار فقط بل قد يُوجد بينهم مؤمنون من أهل الكبائر فيكون هؤلاء داخلين في هذا الإِستثناء. ولكن قد ينقدح هذا السؤال أيضاً وهو: ما المراد من الإِستثناء في الجملة الثّانية (التي تتحدث عن الذين سُعدوا)؟ وفي الجواب على هذا السؤال أُجيب - أيضاً - بأنّ المؤمنين المذنبين يدخلون النّار أوّلا ليتطهروا من الذنوب، ثمّ يلتحقون بصفوف أهل الجنّة. فإنّ الإِستثناء في الجملة الأُولى هو بالنسبة لآخر الأمر... وفي الجملة الثّانية لأوّل مرّة (فلاحظوا بدقّة). ويحتمل في الجواب على السؤال الآنف الذكر أنّ الإِستثناء في الجملة الأُولى إِشارة إلى المؤمنين المذنبين الذين يُعتقون من النّار بعد مدة، والإِستثناء في الجملة الثّانية إِشارة إلى قدرة الله سبحانه، والشاهد على هذا الكلام ورود قوله تعالى (إِنّ ربّك فعّال لما يريد) في الجملة الأُولى بعد الإِستثناء، ليدل على تحقق المشيئة الإِلهية، وفي الجملة الثّانية ورد قوله تعالى: (عطاءً غير مجذوذ)ليدل على الأبديّة (فتدّبر). وقد احتمل البعض أن يكون العقاب والثواب متعلقان بحياة البرزخ "النعيم في البرزخ أو الشقاء في البرزخ" التي تكون محدودة المدّة ولابدّ أن تنتهي، ولكنّه احتمال بعيد جدّاً، لأنّ الآيات المتقدمة تتحدث عن يوم القيامة بصراحة، وعلاقة هذه الآيات بتلك الآيات علاقة لا تقبل الإِنفكاك. كما أنّ احتمال كون الخلود هنا بمعنى المدّة الطويلة - كما هو في بعض آيات القرآن الأُخرى، وليس هو البقاء الدائم الأبدي - لا ينسجم مع قوله تعالى: (عطاء غير مجذوذ) ولا مع الإِستثناء نفسه الذي يدل على الأبدية في الجمل السابقة. 6 - تقول الآيات المتقدمة في شأن أهل النّار: (لهم فيها زفير وشهيق) وقد احتمل أهل اللغة والمفسّرون في معنى هاتين الكلمتين "الزفير والشهيق" احتمالات متعددة: 1 - فقال البعض: المراد بـ "الزفير" هو الصراخ المصطحبِ بإخراج النَفس إلى الخارج، وأمّا "الشهيق" فهو الأنين المقترن بِسحبِ الهواء إلى داخل الرئة. 2 - وقال آخرون: إنّ الزفير هو بداية صوت الحمار والشهيق نهايته، ولعل هذا التّفسير لا تختلف عن التّفسير الأوّل كثيراً. وعلى كل حال فإِنّ هذين الصوتين يحكيان عن صراخ وعويل أهل النّار الذين يضجون - من الحُزن والغمّ والحسرة - ضجيجاً يملأ جميع وجودهم ويدلّ على منتهى أذاهم وشدّة عذابهم. وينبغي الإِلتفات إلى أنّ "الزفير والشهيق" كلاهما مصدر، و"الزفير" في الأصل حمل العبء الثقيل على الكتف، ولأنّ هذا العمل يؤدي إلى التأوه والضجيج فقد سمىّ زفيراً، وأمّا "الشهيق" فمعناه في الأصل الإِطالة والإِرتفاع، ومن هنا فقد سمي الجبل المرتفع بالجيل الشاهق أيضاً، ثمّ أطلقوا هذا اللفظ "الشهيق" على الأنين. أسباب السعادة والشقاء: السعادة ضالّة كل الناس، وكلّ واحد يبحث عنها في شيء ما ويطلبها في مكان ما، وهي توفّر أسباب تكامل الفَرد في المجتمع، والنقطة المقابلة لها هي الشقاء الذي يتنفر منه كل أحد، وهو عبارة عن عدم مساعدة الظروف للنجاح والتقدم والتكامل. فعلى هذا، كل من توفرت له اسباب التحرك والتقدم نحو الاهداف السامية روحياً وجسمياً وعائلياً وبيئياً وثقافياً، فهو أقرب للسعادة، وبتعبير آخر هو أكثر سعادة! ولكن ينبغي الإِلتفات إلى أنّ أساس السعاده أو الشقاء هو إِرادة الإِنسان نفسه، فهو يستطيع أن يوفر الوسائل لترشيد نفسه وحتى مجتمعه، وهو الذي يستطيع أن يواجه عوامل الشقاء ويهزمها أو يستسلم لها. وليس الشقاء أو السعادة في منطق الوحي ومدرسة الانبياء في داخل ذات الإِنسان شيئاً وحتى النواقص في المحيط والعائلة والوراثة كل ذلك قابل للتغيير بتصميم الإِنسان وإِرادته إِلاّ أن ننكر أصل الإِرادة في الإِنسان وحريته، ونعدّه محكوماً بالظروف الجبرية، وكل من سعادته أو شقائه ذاتي أو هو نتيجة جبرية لمحيطه، وما إلى ذلك. وهذا الرأي مرفوض في نظر الأنبياء وفي نظر المذهب العقلي أيضاً. الطريف أنّنا نجد في الرّوايات المنقولة عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) اشارات إلى مسائل مختلفة على أنّها أسباب السعادة، أو أسباب الشقاء... بحيث يتعرف الإِنسان خلال مطالعتها على طريقة التفكير الإِسلامي في هذه المسألة المهمّة، وسيقفُ على الواقعيات العينية وأسباب السعادة الحقيقية، بدلا من أن يقف عليها في المسائل الخرافية والتصوّرات والسنن الخاطئة الموجودة في كثير من المجتمعات. ونلفت نظر القارىء الكريم على سبيل المثال إلى بعض الأحاديث الشريفة في هذا الصدد: 1 - ينقل الإِمام الصّادق (عليه السلام) عن جدّه أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنّه قال "حقيقة السعادة أن يختم للرجل عمله بالسعادة وحقيقة الشقاوة أن يختم للرجل بالشقاوة"(5). فهذه الرّواية تقول بصراحة: إنّ المرحلة النهائية لعمر الإِنسان وأعماله هي المرحلة التي تكشف عن سعادته و شقاوته، وعلى هذا فهي تنفي السعادة أو الشقاء الذاتيين، وتجعل الإِنسان رهين عمله، كما تجعل طريق العودة مفتوحاً في جميع المراحل حتى نهاية عمره. 2 - ونقرأ في حديث آخر عن الإِمام علي (عليه السلام) "السعيد من وُعظ بغيره والشقي من انخدع لِهواه وغروره"(6). وكلام الإِمام علي (عليه السلام) هذا تأكيد آخر على عدم ذاتية السعادة والشقاء وبيان بعض أسبابهما. 3 - ويقول نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: "أربع من أسباب السعادة وأربع من الشقاوة، فالأربع التي من السعادة المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب البهيّ. والأربع التي من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء"(7). مع ملاحظه أنّ هذه الأُمور الأربعة لها تأثير بالغ في الحياة المادية والمعنوية لكل أحد، ويمكن أن تكون من عوامل النجاح او الفشل وتتّضح بهذا سعة مفهوم السعادة والشقاوة في منطق الإِسلام. فالمرأة الصالحة ترغّ? ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ أي مدة دوامها في الدنيا أريد به التأييد ﴿إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ﴾ قيل إلا بمعنى سوى مثل لك ألف إلا ألفان سبقا أي سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا منتهى لها على مدتهما والمعنى خالدين فيها أبدا أو استثناء من خلودهم في النار لأن منهم فساق الموحدين وهم يخرجون منها ويصح الاستثناء بذلك لزوال حكم الكل بزواله عن البعض وهم المستثنى في الآتية إذ يفارقون الجنة وقت عذابهم وقد شقوا بعصيانهم وسعدوا بإيمانهم فجمعوا الوصفين باعتبارين ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ لا مانع له.