تعتبر الآرية مكملّة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدّث هذه الآية بصراحة أكثر وتقول: إنّ هؤلاء المشركين هم الّذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وصبّوا عليهم ألوان الأذى والعذاب، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم أينما وجدوهم، وأنّ هذا الحكم هو بمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل، لأنّهم قاتلوكم وأخرجوكم من مكّة (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم).
ثمّ يضيف الله تعالى (والفتنة أشدُّ من القتل).
أمّا المراد من (الفتنة) ما هو؟ فهناك أبحاث عديدة بين المفسرين و أرباب اللّغة، فهذه المفردة في الأصل من (فَتْن) على وزن مَتْن، ويقول الراغب في مفرداته أنّها تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وإصالته، وقال البعض أنّ المعنى هو وضع الذهب في النار لتطهيره من الشوائب(6)، وقد وردت مفردة الفتنة ومشتقاتها في القرآن الكريم عشرات المرّات وبمعان مختلفة.
فتارة جاءت بمعنى الإمتحان مثل (أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون)(7).
وتارةً وردت بمعنى المكر والخديعة في قوله تعالى (يا بني آدم لا يَفْتَتِنَنّكُم الشّيطان)(8).
وتارةً بمعنى البلاء والعذاب مثل قوله (يوم هم على النّار يُفتنون ذوقوا فتنتكم)(9).
وتارةً وردت بمعنى الضّلال مثل قوله (ومن يُرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً)(10).
وتارةً بمعنى الشرك وعبادة الأوثان أو سد طريق الإيمان أمام الناس كما في الآية مورد البحث وبعض الآيات الواردة بعدها فيقول تعالى: (وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين لله).
ولكنّ الظاهر أنّ جميع هذه المعاني المذكورة للفتنة تعود إلى أصل واحد (كما في أغلب الألفاظ المشتركة)، لأنه مع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ معنى الأصل هو وضع الذهب في النار لتخليصه من الشوائب فلهذا استعملت في كلّ مورد يكون فيه نوع من الشّدة، مثل الإمتحان الّذي يقترن عادةً بالشّدة ويتزامن مع المشكلات، والعذاب أيضاً نوع آخر من الشّدة، وكذلك المكر والخديعة التي تُتّخذ عادةً بسبب أنواع الضغوط والشدائد، وكذلك الشرك وايجاد المانع في طريق ايمان الناس حيث يتضمّن كلّ ذلك نوع من الشّدة والضغط.
والخلاصة أنّ عبادة الأوثان وما يتولّد منها من أنواع الفساد الفردي والإجتماعي كانت سائدة في أرض مكّة المكرّمة حيث لوّثت بذلك الحرم الإلهي الآمن، فكان فسادها ااشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث مخاطب
المسلمين: أنّه لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفاً من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.
وقد أورد بعض المفسّرين احتمالاً آخر، وهو أن يكون المراد من الفتنة هنا الفساد الإجتماعي من قبيل تبعيد المؤمنين من أوطانهم حيث تكون هذه الاُمور أحياناً أشد من القتل أو سبباً في قتل الأنفس والأفراد في المجتمع، فنقرأ في الآية (73) من سورة الأنفال قوله تعالى (إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)أي إذا لم تقطعوا الرابطة مع الكفّار فسوف تقع فتنة كبيرة في الأرض وفساد عظيم.
ثمّ تشير الآية إلى مسألة اُخرى في هذا الصدد فتقول: إنّ على المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائماً وأبداً، ولذلك لا ينبغي قتال الكفّار عند المسجد الحرام،إلاّ أن يبدئوكمبالقتال (ولاتقاتلوهم عندالمسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه).
(فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) لأنّهم عندما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدّة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم وإحترامه.
ولكن بما أنّ الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائماً الإندار والبشارة معاً، والثواب والعقاب كذلك، لكي يؤثّر في المسلمين تأثيراً سليماً، فلذلك فسح المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال (فإن انتهوا فإنّ الله غفور رحيم).
﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ وجدتموهم في حل أو حرم ﴿وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي مكة ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي شركهم وصدهم إياكم عن الحرم أعظم من قتلكم إياهم فيه ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ﴾ تفاتحوهم بالقتال ﴿عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ فإنهم هم الذين هتكوا حرمة الحرم ﴿كَذَلِكَ﴾ الجزاء ﴿جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾ يفعل بهم كفعلهم.