لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ومن أجل أن يبرهنوا على صحة كلامهم فقد (جاءُوا على قميصه بدم كذب)إِذ لطخوا الثوب بدم الغزال أو الخروف أو التيس... ولكن حيث أنّ الكاذب لا يمتلك حافظة قويّة، وحيث أن أية حقيقة فيها علائق مختلفة وكيفيات ومسائل يقل أن تجتمع منظّمة في الكذب، فقد غفل إِخوة يوسف عن هذه المسألة الدقيقة... وهي - على الأقل - أن يخرقوا قميص يوسف الملطخ بالدم ليدل على هجوم الذئب... فقد قدّموا القميص سالماً غير مخرق فأحس الأب بمؤامرتهم، فما إِن وقعت عيناه على القميص حتى فهم كل شيء و(قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً). جاء في بعض الرّوايات أنّ يعقوب أخذ قميص يوسف وهو يقلّبه ويقول: "ما آرى أثر ناب ولا ظفر إنّ هذا السبع رحيم"، وفي رواية أنّه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: تاللّه ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل إبني ولم يمزق على قميصه، وجاء أنّه بكى وصاح وحرّ مغشيّاً عليه فأفاضوا على الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلاّ ببرد السحر(2). وبالرغم من احتراق قلبه ولهيب روحه لم يجر على لسانه ما يدل على عدم الشكر أو اليأس أو الفزع أو الجزع، بل قال: (فصبر جميل)(3) ثمّ قال: (والله المستعان على ما تصفون) وأسأله أن يبدل مرارة الصبر في فمي إلى "حلاوة" ويرزقني القوة والقدرة على التحمّل أكثر أمام هذا الطوفان العظيم، لئلا أفقد زمامي ويجري على لساني كلام غير لائق. ولم يقل: أسأله أن يعطيني الصبر على موت يوسف، لأنّه كان يعلم أن يوسف لم يُقتل... بل قال: أطلب الصبر على مفارقتي ولدي يوسف... وعلى ما تصفون. ملاحظات 1 - حول الترك "الأَولى" ينقل أبو حمزة الثمالي عن الإِمام السجاد فيقول: كنت يوم الجمعة في المدينة وصليت الغداة مع الإِمام السجاد (عليه السلام) فلمّا فرغ من صلاته وتسبيحه نهض إلى منزله وأنا معه، فدعا مولاة له تُسمى سكينة فقال لها: "لا يعبر على بابي سائل إِلاّ أطعمتموه فإنّ اليوم يوم الجمعة". يقول أبو حمزة: فقلت له: ليس كل من يطلب العَونَ مستحقاً له، فقال: يا أبا ثابت، أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّاً فلا نُطعمه ونردّه فينزل بنا - أهل البيت - ما نزل بيعقوب وآله. أطعِمُوهم إِن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشاً فيتصدق منه ويأكل هو وعياله منه، وإِن سائلا مؤمناً صوّاماً محقّاً له عندالله منزلة، وكان مجتازاً غريباً اعترَّ على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إِفطاره يهتف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم، يهتف بذلك على بابه مراراً وهم يسمعونه، قد جهلوا حقّه ولم يصدقوا قوله: فلما أيس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلى الله باب وطاوياً، وأصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً لله، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً وأصبحوا وعندهم من فضل طعامهم. قال: فأوحى الله عزّو جلّ إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت - يا يعقوب - عبدي ذلة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي، ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى ولدك يا يعقوب، إِن أحبّ أنبيائي إِليَّ وأكرمهم علي من رحم مساكين عبادي وقرَّبهم اليه وأطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ يا يعقوب، ما رحمت "ذميال" عبدي المجتهد في عبادته، القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لمّا عبر ببابك عند أوان افطاره ويهتف بكم: أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع، فلم تطعموه شيئاً. فاسترجع واستعبر وشكا ما به إِليّ وبات جائعاً وطاوياً حامداً، أصبح لي صائماً، وأنت - يا يعقوب - ووُلدك شباع، وأصبحت وعندكم فضل من طعامكم. أو علمت - يا يعقوب - أنّ العقوبة والبلوى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي... الخ...(4). ومن الطريف أنّ أبا حمزة يقول: سألت الإِمام زين العابدين (عليه السلام) متى رأى يوسف رؤياه؟ فقال الإِمام: في تلك الليلة"(5). يستفاد من هذا الحديث أن زلّة بسيطة أو بعبارة أدق: "ترك الأَولى" وهو لا يعدّ خطيئة أو إِثماً، لأنّ يعقوب له يتّضح له حال السائل... هذا الترك من قبل الأنبياء والأولياء يكون سبباً لأنّ يبتليهم الله بلاءً شديداً... وما ذلك إِلاّ لمقامهم الكبير الذي يوجب عليهم أن يراقبوا كل حركاتهم وسكناتهم، لأنّ "حَسنات الأبرار سيئات المقربين". فاذا كان يعقوب (عليه السلام) قد ابتلي بهذا البلاء والهمّ لأنّه لم يطلع على حال قلب السائل وآلامه، فكيف الحال في المجتمعات التي تغرق فيها طائفة بالنعيم والرفاه وطائفة من الناس جياع، كيف لا يشملهم غضب الله! وكيف يسلَمون من عذاب الله! 2 - دعاء يوسف البليغ الجذّاب ترد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) وروايات أهل السنة، أن يوسف حين استقرّ في قعر الجبّ انقطع أمله من كل شيء، وصرف كلِّ توجهه إلى ذات الله المقدسة يناجي ربّه، وكانت لديه حوائج ذكرها بتلقين جبرئيل إِياه... ففي رواية أنّه دعا ربّه بهذه المناجاة "اللّهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، يا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر كل ملأ، يا حيّ يا قيّوم، أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي همّ ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، إِنّك على كل شيء قدير". ومن الطريف أنّنا نقرأ في ذيل هذه الرواية، أنّ الملائكة سمعت صوت يوسف فنادت: "إِلـهنا نسمع صوتاً ودعاءً، الصوت صوت صبي والدعاء دعاء نبيّ"(6). وهناك نقطة تدعو للإِلتفات وهي: حين رمى يوسفَ إِخوتُهُ في الجبّ خلعوا عنه قيمصه وتركوه عارياً، فنادى: اتركوا لي قميصي - على الأقل - لأغطي به بدني إِذا بقيت حياً، ويكون كفني إِذا متّ. فقال له إِخوته: اطلبه من الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر الذين رأيتهم في منامك، ليكونوا مؤنسيك في هذه البئر، ويكسوك ويُلبسوك ثوباً على بدنك... فدعا يوسف على أثر اليأس المطلق بالدعاء الآنف الذكر.(7) وفي رواية عن الإِمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "حين أُلقي يوسف في الجبّ هبط عليه جبرئيل وقال: ما تصنع هنا أيّها الغلام؟ فقال له: إِن إِخوتي ألقوني في البئر. فقال له جبرئيل: أتُّحبُّ أن تخرج من البئر؟ قال: ذلك بمشيئة الله، إن شاء أخرجني. فقال له: إِن الله يأمرك أن تدعو بهذا الدعاء لتخرج من البئر: "اللّهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلاّ أنت المنّان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإِكرام، أن تصلي على محمّد وآل محمّد وأن تجعل لي ممّا أنا فيه فرجاً ومخرجاً"(8). 3 - جملة (وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجبّ) تدلّ على أنّهم لم يرموه في البئر، أنزلوه على مكان يشبه الرصيف لمن يريد النّزول إلى سطح الماء، وقد شدوه يحبل حتى إذا نزل ووصل إلى غيابة الجبّ تركوه وحده. وهناك قسم من الرّوايات التي تفسّر الآيات المتقدمة تؤيد هذا الموضوع. 4 - تسويل النفس جملة "سوّلت" مشتقّة من "التسويل" ومعناه "التزيين" وقد يأتي بمعنى "الترغيب" وقد يأتي بمعنى "الوسوسة" كما في بعض التفاسير... جميع هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد... أي إِنّ هوى النفس زيّن لكم هذا العمل. وهي إِشارة إلى أنّه حين يطغى هوى النفس على الإِنسان ويستبدّ به عناده، فإنه يتصور أن أسوأ الجنايات لديه أمر حسن، كما لو كان ذلك قتل الأخ أو إِبعاده، وقد يتصور أن ذلك أمر مقدّس... وهذه نافذة على أصل كلي في المسائل النفسية، بحيث يجعل الميل المفرط والرغبة الجامحة لأمر ما - وخاصّة مع اقترانهما بالرذائل الأخلاقية - غشاوة على إِحساس الإِنسان، فتنقلب عنده الحقائق وتتغير صورها. لذا فإِنّ القضاء الصحيح وإِدراك الواقعيّات العينيّة، لا يمكن لها أن تتحقق دون تهذيب النفس، وإِذا كانت العدالة شرط في القاضي فإنّ هذا الأمر واحد من أسبابها... وإِذا كان القرآن الكريم يقول في الآية (282) من سورة البقرة (واتقوا الله ويعلمكم الله) فذلك إِشارة إلى هذه الحقيقة أيضاً. 5 - الكذاب عديم الحافظة قصّة يوسف - وما جرى له مع إِخوته - تثبت مرّة أُخرى هذا الأصل المعروف الذي يقول: إِنّ الكذاب لا يستطيع أن يكتم سرّه دائماً، لأنّ الواقعيات العينية حين تظهر إلى الوجود الخارجي تظهر ومعها روابط - أكثر من أن تعدّ - مع موضوعات أُخرى تدور حولها، وإِذا أراد الكاذب أن يهيىء مناخاً لمسألة غير واقعية فإنّه لا يستطيع أن يحفظ هذه الروابط مهما كان دقيقاً. ولنفرض أنّه يستطيع أن يؤلف بين عدد من الروابط الكاذبة في حادثة ما، ولكن المحافظة على هذه الروابط المصطنعة في ذهنه ليست عملا هيّناً، فإنّ أقل غفلة منه تسبب وقوعه في التناقض، فتتسبب هذه الغفلة في فضيحة صاحبها وتكشف الأمر الواقعي... وهذا درس كبير لمن يريد المحافظة على ماء وجهه ومكانته في المجتمع أن لا يلجأ إلى الكذب فيتعرض موقعه الإِجتماعي للخطر وينزل عليه غضب الله. 6 - ما هو الصبر الجميل؟ الصبر أمام الحوادث الصعبة والأزمات الشديدة يدلّ على قوة شخصية الإِنسان، وعلى سعة روحه بسعة ما تتركه هذه الحوادث فلا يتأثر ولا يهتز لها. ربّما يحرك النسيم العليل ماء الحوض الصغير، ولكن المحيطات العظيمة كالمحيط الهادي - مثلا - يستوعب حتى الاعصار الذي يتلاشى أمام هدوئه وسعته. وقد يتصبر الإِنسان أحياناً، ولكنّه سرعان ما يتلف هذا الصبر بكلماته النابية التي تدل عى عدم الشكر وعدم تحمل الحادثة ونفاد الصبر. ولكن المؤمنين الذين يتمتعون بإِرادة قويّة واستيعاب للحوادث، هم أُولئك الذين لا يتأثرون بها ولا يجري على لسانهم ما يدلّ على عدم الشكر وكفران النعمة أو الجزع أو الهلع. صبر هؤلاء هو الصبر الجميل... قد يبرز الآن هذا السؤال، وهو أننا نقرأ في الآيات الأُخرى - من هذه السورة - أنّ يعقوب بكى على يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، أفلا ينافي ما صدر من يعقوب صبرَه الجميل؟! والجواب على هذا السؤال في جملة واحدة، وهي: إِن قلوب عباد الله مركز للعواطف، فلا عجب أن ينهلّ دمع عينهم مدراراً، المهم أن يسيطروا على أنفسهم، ولا يفقدوا توازنهم، ولا يقولوا شيئاً يسخط الله. ومن الطريف أن مثل هذا السؤال وجه إلى النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بكى على موت ولده إِبراهيم حيث قالوا له: يا رسول الله، أتنهانا عن البكاء وتبكي؟! فأجابهم النّبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) "تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ". وفي رواية أُخرى أنه قال: "ليس هذا بكاء إِنّه رحمة"(9). وهذا إِشارة إلى أنّ ما في صدر الإِنسان هو القلب، وليس حجر! وطبيعيّ أن يتأثر الإِنسان أمام المسائل العاطفية، وأبسط هذا التأثر هو انهلال الدمع... إِنَّ هذا لايعدّ عيباً، بل هو أمر حسن، العيب هو أن يقول الإِنسان ما يسخط الربّ. ﴿وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ وصف به مبالغة أو ذي كذب أي مكذوب فيه فإنه دم سخلة ذبحوها ولطخوه به وذهلوا أن يمزقوه فقال يعقوب كيف أكله ولم يمزق قميصه ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ﴾ زينت ﴿لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ فصنعتموه ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ لا جزع فيه أجمل أو فأمري صبر ﴿وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ على دفعه أو على الصبر عليه.