التّفسير
في قصر عزيز مصر:
إنتهت حكاية يوسف مع إِخوته الذين ألقوه في غيابة الجبّ وبيّناها تفصيلا، بدأ فصل جديد من حياة هذا الغلام الحدث في مصر... فقد جيء بيوسف إلى مصر وعرض للبيع، ولما كان تحفة نفيسة فقد صار من نصيب "عزيز مصر" الذي كان وزيراً لفرعون أو رئيساً لوزرائه، لأنّه كان يستطيع أن يدفع قيمة أعلى لغلام ممتاز من جميع الجهات، والآن لنَر ما الذي حدث له في بيت عزيز مصر.
يقول القرآن الكريم في شأن يوسف: (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً)(1) فلا ينبغي أن تنظري اليه كما ينظرالى العبيد.
يستفاد من سياق الآية أنّ عزيز مصر لم يرزق ولداً وكان في غاية الشوق للولد، وحين وقعت عيناه على هذا الصبيّ الجميل والسعيد تعلّق قلبه به ليكون مكان ولده.
ثمّ يضيف القرآن الكريم (وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض).
هذا "التمكين" في الأرض إِمّا أن يكون لمجيىء يوسف إلى مصر، وخاصّة أن خطواته، في محيط مصر مقدّمة لما سيكون عليه من الإِقتدار والمكانة القصوى، وإِمّا أنّه لا قياس، بين هذه الحياة في مصر "العزيز" وبين تلك الحياة في غيابة الجبّ والوحدة والوحشة.
فأين تلك الشدّة من هذه النعمة والرفاه!
ويضيف القرآن أيضاً (ولنعلمه من تأويل الأحاديث).
المراد من "تأويل الأحاديث" - كما أشرنا سابقاً - هو علم تفسير الأحلام وتعبير الرؤيا حيث كان يوسف قادراً على أن يطلع على بعض أسرار المستقبل من خلاله، أو المراد منه الوحي لأنّ يوسف مع عبوره من المضائق الصعبة والشدائد القاسية ونجاحه في الإِختبارات الإِلهية في قصر عزيز مصر، نال الجدارة بحمل الرسالة والوحي.
ولكن الإِحتمال الأوّل أقرب كما يبدو للنظر.
ثمّ يختتم القرآن هذه الآية بالقول: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
إِنّ واحدة من مظاهر قدرة الله العجيبة وهيمنته على الأُمور كلها أن يدع - في كثير من الموارد - أسباب موفقيه الإِنسان ونجاحه بيد أعدائه كما حدث في مسألة يوسف (عليه السلام)، فلو لا خطة إِخوته لم يصل إلى الجبّ أبداً، ولو لم يصل إلى الجبّ لما وصل إلى مصر، ولو لم يصل إلى مصر لما ذهب إلى السجن ولما كان
هناك أثر من رؤيا فرعون التي أصبح يوسف بسببها عزيزَ مصر!
ففي الحقيقة إِن الله أجلس يوسف على عرش الإِقتدار بواسطة إِخوته الذين تصوروا أنّهم سيقضون عليه في تركهم إِيّاه في غيابة الجُبِّ.
لقد واجه يوسف في هذا المحيط الجديد، الذي يعدّ واحداً من المراكز السياسية المهمة في مصر مسائل مستحدثة... فمن جهة كان يرى قصور الطغاة المدهشة وثرواتهم ومن جهة أُخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة أسواق النخاسين وبيع المماليك والعبيد... ومن خلال الموازنة بين هاتين الصورتين كان يفكر في كيفية القضاء على هموم المستضعفين من الناس لو أصبح مقتدراً على ذلك!
أجلْ، لقد تعلم الكثير من هذه الأشياء في هذا المحيط المفعم بالضوضاء، وكان قلبه يفيض همّاً لأنّ الظروف لم تتهيأ له بعدُ.
﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ﴾ العزيز ﴿لاِمْرَأَتِهِ﴾ راعيل ولقبها زليخا ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ مقامه عندنا ﴿عَسَى أَن يَنفَعَنَا﴾ في أمورنا ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ كان عقيما وتفرس فيه الرشد ﴿وَكَذَلِكَ﴾ كما جعلنا له مخرجا حسنا ﴿مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ﴾ أرض مصر ليقيم العدل فيها ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ لا يغلبه شيء أو على أمر يوسف حتى بلغه ما قدر له ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ذلك.