لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وحين أحسّ يوسف أنّ السجينين سينفصلان عنه عاجلا، ومن أجل أن يجد يوماً يُطلق فيه ويُبّرأُ من هذه التهمة، أوصى أحد السجينين الذي كان يعلم أنّه سيطلق أن يذكره عند الملك (وقال للذي ظنّ أنّه ناج منهما اُذكرني عند ربّك) لكن هذا الغلام "الناسي" مثله مثل الأفراد قليلي الإستيعاب، ما إن يبلغوا نعمةً ما حتّى ينسوا صاحبها، وهكذا نسي يوسف تماماً، ولكن القرآن عبّر عن ذلك بقوله: (فأنساه الشيطان ذكر ربّه) وهكذا أصبح يوسف منسيّاً (فلبث في السجن بضع سنين). هناك أقوال بين المفسّرين في أنّ الضمير من (أنساه الشيطان) هل يعود على ساقي الملك، أم على يوسف؟ كثير من المفسّرين يعيدون الضمير على يوسف فيكون المعنى: إنّ الشيطان أنسى يوسف ذكر الله فتوسّل بسواه. ولكن مع ملاحظة الجملة السابقة التي تذكر أنّ يوسف كان يوصي صاحبه أن يذكره عند ربّه، يظهر أنّ الضمير يعود على الساقي نفسه. وكلمتا "الربّ" في المكانين بمعنى واحد. كما أنّ جملة (وادّكر بعد اُمّة) التي ستأتي في الآيات التالية، تدلّ على أنّ الذي نسي هو الساقي. ولكن سواءً عاد الضمير على يوسف أم على صاحبه، فما من شكّ من أنّ يوسف توسّل بالغير في سبيل نجاة نفسه! وبديهي أنّ مثل هذا التوسّل للنجاة من السجن ومن سائر المشاكل، ليس أمراً غريباً بالنسبة للأفراد العاديين، وهو من قبيل التوسّل بالأسباب الطبيعية، ولكن بالنسبة للأفراد الذين هم قدوة وفي مكانة عالية من الإيمان والتوحيد، لا يمكن أن يخلو من إيراد، ولعلّ هذا كان سبباً في بقاء يوسف في السجن بضع سنين، إذ لم يرض الله سبحانه ليوسف "ترك الأَولى"!. في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "عجيب من أخي يوسف كيف إستغاث بالمخلوق دون الخالق؟" وروي أنّه قال: "لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث" يعني قوله (اُذكرني عند ربّك). وروي عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال: "جاء جبرئيل (عليه السلام) فقال: يايوسف من جعلك أحسن الناس؟ قال: ربّي، قال: فمن حبّبك إلى أبيك دون إخوانك؟ قال: ربّي، قال: فمن ساق إليك السيارة؟ قال: ربّي، قال: فمن صرف عنك الحجارة؟ قال: ربّي، قال: فمن أنقذك من الجُبّ؟ قال: ربّي، قال: فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال: ربّي، قال: فإنّ ربّك يقول: ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث بالسجن بما قلت بضع سنين"(1). ملاحظات 1 - السّجن مركز للإرشاد أو بؤرة للفساد للسجن تأريخ مؤلم ومثير للغمّ جدّاً في هذا العالم، فأسوأ المجرمين وأحسن الناس كلاهما دخل السجن، ولهذا السبب كان مركزاً دائماً لأفضل الدروس البنّاءة أو لأسوأ الإختبارات. وفي الحقيقة إنّ السجون التي يجتمع فيها المفسدون تعدّ معهداً عالياً للفساد! ففي هذه السجون تتمّ مبادلة الخطط التخريبيّة والتجارب... وكلّ منحرف يعلم درسه للآخرين، ولهذا السبب حين يطلقون من السجن يواصلون طريقهم باُسلوب أكثر مهارة من السابق وبتشكيل جديد... إلاّ أن يلتفت مسؤولو السجن لهذا الموضوع، ويعملوا على تغيير هؤلاء الأفراد الذين فيهم الإستعداد والقابلية إلى عناصر صالحة ومفيدة وبنّاءة. وأمّا السجون التي تتشكّل من الصالحين والأبرياء والنزيهين والمجاهدين في طريق الحقّ والحرية، فهي معاهد ومراكز لتعليم الدروس العقائديّة والطرق العملية للجهاد والمبارزة والبناء. وهذه السجون تعطي فرصة طيّبة للمنافحين في طريق الحقّ ليؤدّوا دورهم، وينسّقوا جهودهم بعد التحرّر من هذه السجون. وحين إنتصر يوسف على امرأة محتالة ماكرة متّبعة لهواها - كامرأة عزيز مصر - ودخل السجن، سعى أن يبدّل محيط السجن إلى محيط بنّاء ومركز للتعليم والتربية، حتّى أنّه وضع أساس حريته وحرية الآخرين ضمن تخطيطه هناك. وهذا الماضي يعطينا درساً مهمّاً، وهو أنّ الإرشاد والتربية ليسا محدودين في مركز معيّن كالمسجد والمدرسة - مثلا - بل ينبغي أن يستفاد من كلّ فرصة سانحة للوصول إلى هذا الهدف، حتّى ولو كانت في السجن وتحت أثقال القيود. أمّا عدد السنوات التي قضاها يوسف في السجن، فهناك أقوال بين المفسّرين، والمشهور أنّها سبع سنوات، إلاّ أنّ بعضهم قال: إنّ يوسف بقي في السجن إثنتي عشرة سنة، خمس قبل رؤيا صاحبي سجنه، وسبع بعدها، وكانت سنوات ملأى بالتعب والنَصب إلاّ أنّها من جهة الإرشاد كانت سنوات مفعمة بالبركة والخير(2). 2 - حين يُصلبُ المصلحون! من الطريف أنّنا نقرأ في هذه القصّة أنّ الذي رأى في منامه أنّه يعصر خمراً ويقدّمه للملك قد تحرّر وأطلق من السجن، وأنّ الذي رأى أنّه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه قد صعد عود المشنقة. أليس مفهوم هذا أنّ الذين هم على خُطى الشّهوات وفي محيط المفسدين وأنظمة الطغاة ينالون الحريّة، وأمّا الذين يقدّمون خدمة للمجتمع ويعطون الخبز للناس فليس من حقّهم الحياة! وينبغي أن يموتوا؟ فهذا نسيج المجتمع الذي يحكمه النظام الفاسد... وهذه نهاية الصالحين في أمثال هذا المجتمع!. صحيح أنّ يوسف - إعتماداً على الوحي الإلهي وعلم التعبير - توقّع ما كان، ولكنّ أيّ معبّر لا يمكن له أن يبعد عن نظره هذه المناسبات! ففي الحقيقة إنّ الخدمة في مثل هذه المجتمعات ذنب عظيم، والخيانة والإساءة هي الثواب بعينه!. 3 - أكبر دروس الحريّة رأينا أنّ أكبر درس علّمه يوسف للسجناء هو درس التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، ذلك الدرس الذي حصيلته الحريّة والتحرّر. لقد كان يعرف أنّ الأرباب "المتفرّقين" والمعبودين المختلفين والأهداف المتفرّقة، كلّها أساس التفرقة في المجتمعات، وطالما هناك تفرقة فالجبابرة مسلّطون على رقاب الناس، لذلك أعطى يوسف "دستوراً" وأمراً بقطع جذورهم بسيف التوحيد الباتر، لئلاّ يضطرّوا إلى رؤية الحريّة في الأحلام والمنام، بل ينبغي أن يشاهدوا الحريّة في اليقظة. تُرى، أليس الجبابرة المسلّطون على رقاب الناس هم ثلّة من الأفراد يستطيع الناس مكافحتهم، إلاّ أنّهم بإيجاد التفرقة والنفاق، وعن طريق "الأرباب المتفرقين" إستطاعوا أن يتحكّموا على رقاب الناس ويهدّوا قوى المجتمع!. ومن الطبيعي أن يكون اليوم الذي تجتمع فيه الاُمم على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة تحت راية "الله الواحد القهّار" ويجمعوا قواهم، هو يوم زوال أُولئك الجبابرة الظالمين، وهذا درس مُهم جدّاً ليومنا وغدنا ولجميع الناس في كلّ المجتمعات البشرية وعلى إمتداد التاريخ. ومن الضروري أن نلتفت إلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ يوسف يقول: (إنّ الحكم إلاّ لله) ثمّ يؤكّد أنّ العبادة والخضوع لا تكونان إلاّ له (أمر ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه) ويؤكّد بعد ذلك بالقول: (ذلك الدين القيّم) ويعقّب أخيراً (ولكن أكثر الناس لا يعلمون). فعلى هذا لو تعلّم الناس المعارف الصحيحة وعرفوا الحقيقة، ونهضت فيهم حقيقة التوحيد، فإنّ المشاكل ستنحلّ لا محالة. 4 - إستغلال شعار بنّاء بشكل سيىء شعار (إنّ الحكم إلاّ لله) الذي هو شعار قرآني إيجابي مثبت، ينفي أيّة حكومة كانت سوى حكومة الله أو ما تنتهي إليه حكومة الله، إلاّ أنّه - وللأسف - استُغلّ على إمتداد التاريخ بشكل عجيب، ومن ذلك إستغلال الخوارج لهذا الشعار في واقعة "النهروان" حيث كانوا أُناساً جامدين حمقى قشريين منحرفين جدّاً... فتمسكوا بهذا الشعار لنفي التحكيم في حرب صفين وقالوا: لا يصحّ الحكم لنهاية الحرب أو الخليفة لأنّ الله يقول: (إنّ الحكم إلاّ لله). لقد كانوا غافلين أو متغافلين عن هذه المسألة البديهيّة، وهي أنّ التحكيم إذا كان قد تعيّن من أئمّة أمر الله باتّباعهم فحكمهم أيضاً حكم الله لأنّه ينتهي إليه. صحيح أنّ الحكمين في حرب صفين لم يتمّ تعيينهما من قبل الإمام علي (عليه السلام)، ولو كان الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عيّنهما فإنّ حكمهما حكمه، وحكم علي حكم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكم النّبي حكم الله. وهل ياترى يحكمُ الله أو يقضي مباشرةً بين المجتمعات! أو يتولّى اُمور الناس أشخاص من جنسهم، غاية ما في الأمر ينتهي أمرهم إلى الله؟! ولكن الخوارج ودون أن يتوجّهوا إلى هذه الحقيقة الواضحة أشكلوا على أصل قصّة التحكيم على الإمام علي (عليه السلام) وحتّى عدّوه - والعياذ بالله - زيغاً منه، يا لهذا الجهل والجمود والبلادة. وهكذا فإنّ مثل هذه الأُمور البنّاءة حين تقع بأيدي أفراد جهّال تتحوّل إلى أسوأ الوسائل التخريبيّة. وفي هذا اليوم نرى مجموعة من الناس من ضعاف النفوس الذين لا يقلّون عن أُولئك جهلا ولجاجةً، تمسّكوا بالآية المتقدّمة لنفي التقليد عن المجتهدين، أو نفي صلاحيّة حكومتهم، لكن جوابهم جميعاً هو ما ذكرناه آنفاً. 5 - التوجّه لغير الله التوحيد لا يتلخّص في أنّ الله تعالى أحد فرد، بل ينبغي أن يتجسّد في جميع شؤون الحياة، وأحد أبرز علائمه أنّ الإنسان الموحّد لا يعتمد على غير الله ولا يلتجىء إلاّ إليه. نحن لا نقول يجب على الإنسان أن لا يلحظ عالم الأسباب وقانون العلّية لا يرى الأسباب شيئاً، ولا يعتمد على الوسائل والأسباب، بل نقول: أنّ لا يرى تأثيراً واقعيّاً في السبب، بل يرى رأس الخيط في جميع الأُمور بيد مسبّب الأسباب. وبتعبير آخر: لا يرى للأسباب إستقلالا، بل يراها تحت هيمنة الذات المقدّسة لله سبحانه. ويمكن أن يكون عدم توجّه الأفراد العاديين لهذه الحقيقة الكبرى مدعاة للعفو، ولكن عدم الإلتفات ولو بمقدار رأس الإبرة بالنسبة لأولياء الله يكون سبباً لمجازاتهم، وإن لم يكن أكثر من "ترك الأَولى" ورأينا كيف أنّ يوسف بسبب عدم توجّهه لهذه المسألة المهمّة امتدّ حبسه سنوات لينضج آخراً في "موقد" الحوادث، وليحصل على إستعداد أكبر لمواجهة الطغاة، وليعلم أنّه لا ينبغي الإعتماد إلاّ على الله. وعلى المظلومين الذين يسيرون في طريق (الله). وهذا درس كبير لمن يطوي هذه الطريق وللمجاهدين الصادقين بأن لا يخطر ببالهم الإتّفاق مع الشيطان لضرب شيطان آخر!... ولئلاّ يميلوا إلى الشرق أو الغرب، ولا يغذّون الخطى إلاّ على الجادّة الوسطى وهي "الصراط المستقيم". ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ﴾ علم ﴿أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا﴾ وهو الساقي ﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾ سيدك بأني حبست ظلما ﴿فَأَنسَاهُ﴾ أي الساقي ﴿الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ أن يذكر لسيده أو أنسى يوسف ذكر الله حتى استعان بمخلوق ﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ سبعا بعد الخمس والبضع ما دون العشرة إلى الثلاثة.