ثمّ أنّه يحلّ بكم القحط لسبع سنين متوالية فلا أمطار ولا زراعة كافية، فعليكم بالإستفادة ممّا جمعتم في سنيّ الرخاء (ثمّ يأتي بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ).
ولكن عليكم أن تحذروا من إستهلاك الطعام (إلاّ قليلا ممّا تحصنون) وإذا واظبتم على هذه الخطّة فحينئذ لا خطر يهدّدكم لأنّه (ثمّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس)... و (يغاث الناس) أي يدركهم الغيث فتكثر خيراتهم، وليس هذا فحسب، بل (فيه يعصرون) المحاصيل لإستخراج الدهن والفاكهة لشراب عصيرها... الخ.
ملاحظات
1 - كم كان تعبير يوسف لهذه الرؤيا دقيقاً ومحسوباً، حيث كانت البقرة في الأساطير القديمة مظهر "السنة"... وكون البقرات سماناً دليل على كثرة النعمة، وكونها عجافاً دليل على الجفاف والقحط، وهجوم السبع العجاف على السبع السّمان كان دليلا على أن يُستفاد من ذخائر السنوات السابقة.
وسبع سنبلات خضر وقد أحاطت بها سبع سنبلات يابسات تأكيد آخر على هاتين الفترتين فترة النعمة وفترة الشدّة.
إضافةً إلى انّه أكّد له على هذه المسألة الدقيقة، وهي خزن المحاصيل في سنابلها لئلاّ تفسد بسرعة وليكون حفظها إلى سبع سنوات ممكناً.
وكون عدد البقرات العجاف والسنابل اليابسات لم يتجاوز السبع لكلّ منهما دليل آخر على إنتهاء الجفاف والشدّة مع إنتهاء تلك السنوات السبع... وبالطبع فإنّ سنةً سيأتي بعد هذه السنوات سنة مليئة بالخيرات والأمطار، فلابدّ من التفكير للبذر في تلك السنة وأن يحتفظوا بشيء ممّا يخزن لها.
في الحقيقة لم يكن يوسف مفسّراً بسيطاً للأحلام، بل كان قائداً يخطّط من زاوية السجن لمستقبل البلاد، وقد قدّم مقترحاً من عدّة مواد لخمسة عشر عاماً على الأقل، وكما سنرى فإنّ هذا التعبير المقرون بالمقترح للمستقبل حرّك الملك وحاشيته وكان سبباً لإنقاذ أهل مصر من القحط القاتل من جهة، وأن ينجو يوسف من سجنه وتخرج الحكومة من أيدي الطغاة من جهة أُخرى.
2 - مرّة أُخرى تعلِّمنا هذه القصّة هذا الدرس الكبير وهو أنّ قدرة الله أكبر ممّا نتصوّر، فهو القادر بسبب رؤيا بسيطة يراها جبابرة الزمان أنفسهم أن ينقذ اُمّة كبيرة من فاجعة عظيمة، ويخلّص عبده الخالص بعد سنين من الشدائد والمصائب أيضاً.
فلابدّ أن يرى الملك هذه الرؤيا، ولابدّ أن يحضر الساقي عنده يتذكّر رؤياه في السجن، وترتبط أخيراً حوادث مهمّة بعضها ببعض، فالله تعالى هو الذي يخلق الحوادث العظيمة من توافه الأُمور.
أجل، ينبغي لنا توكيد إرتباطنا القلبي مع هذا الربّ القادر...
3 - الأحلام المتعدّدة في هذه السورة، من رؤيا يوسف نفسه إلى رؤيا السجينين إلى رؤيا فرعون مصر، والإهتمام الكبير الذي كان يوليه أهل ذلك العصر بالنسبة لتعبير الرؤيا أساساً، يدلّ على أنّ تعبير الرؤيا في ذلك العصر كان من العلوم المتقدّمة، وربّما وجب - لهذا السبب - أن يكون نبي ذلك العصر - أي(يوسف) - مطّلعاً على مثل هذا العلم إلى درجة عالية بحيث يعدّ إعجازاً منه.
أليست معاجز الأنبياء يجب أن تكون من أبرز العلوم في زمانهم، ليحصل اليقين - عند العجز من قبل علماء العصر - بأنّ مصدر العلم الذي يحمله نبيّهم هو الله
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي السبع المخصبة ﴿سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ مجدبات وهي تأويل العجاف واليابسات ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ أي تأكلون فيهن ما ادخرتم لأجلهن في السنين المخصبة من الحب وهو تأويل أكل العجاف السمان ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾ تحرزون.