لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وتواصل امرأة العزيز القول: (وما اُبرىء نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي) وبحفظه وإعانته نبقى مصونين، وأنا أرجو أن يغفر لي ربّي هذا الذنب (إنّ ربّي غفور رحيم). قال بعض المفسّرين: إنّ الآيتين الأخيرتين من كلام يوسف، وقالوا: إنّهما في الحقيقة تعقيب لما قاله يوسف لرسول الملك ومعنى الكلام يكون هكذا. "إذا قلت حقّقوا عن شأن النسوة اللائي قطّعن أيديهن، فمن أجل أن يعلم الملك أو عزيز مصر الذي هو وزيره، أنّي لم أخنه في غيابه والله لا يهدي كيد الخائنين كما لا اُبريءُ نفسي لأنّ النفس أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور رحيم". الظاهر أنّ الهدف من هذا التّفسير المخالف لظاهر الآية أنّهم صعب عليهم قبول هذا المقدار من العلم والمعرفة لإمرأة العزيز التي تقول بلحن مخلص وحاك عن التنبّه والتيقّظ. والحال أنّه لا يبعد أنّ الإنسان حين يرتطم في حياته بصخرة صمّاء، تظهر في نفسه حالة من التيقّظ المقرون بالإحساس بالذنب والخجل، خاصّة أنّه لوحظ أنّ الهزيمة في العشق المجازي يجرّ الإنسان إلى طريق العشق الحقيقي "عشق الله". وبالتعبير علم النفس المعاصر: إنّ تلك الميولالنفسية المكبوتة يحصل فيها حالة الـ"تصعيد" وبدلا من تلاشيها وزوالها فانّها تتجلّى بشكل عال. ثمّ إنّ قسماً من الرّوايات التي تشرح حال امرأة العزيز - في السنين الأخيرة من حياتها - دليل على هذا التيقّظ والإنتباه أيضاً. وبعد هذا كلّه فربط هاتين الآيتين بيوسف - إلى درجة ما - بعيدٌ، وهو خلاف الظاهر بحيث لا ينسجم مع أي من المعايير الأدبية للأسباب الآتية: أوّلا: كلمة "ذلك" التي ذكرت في بداية الآية هي بعنوان ذكر العلّة، أي علّة الكلام المتقدّم الذي لم يكن سوى كلام امرأة العزيز فحسب، وربط هذا التذييل بكلام يوسف الوارد في الآيات السابقة أمر عجيب. ثانياً: إذا كانت هاتان الآيتان بياناً لكلام يوسف فسيبدو بينهما نوع من التناقض والتضادّ، فمن جهة يقول: إنّي لم أخنه بالغيب، ومرّة يقول: وما اُبرىء نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء. وهذا الكلام لا يقوله إلاّ من يعثر أو يزل ولو يسيراً، في حين أنّ يوسف لم يصدر منه أي زلل. وثالثاً: إذا كان مقصوده أن يعرف عزيز مصر أنّه بريء فهو من البداية "بعد شهادة الشاهد" عرف الواقع، ولذلك قال لامرأته: (استغفري لذنبك) وإذا كان مقصوده أنّه لم يخن الملك، فلا علاقة للملك بهذا الأمر، والتوسّل إلى تفسيرهم هذا بحجّة أنّ الخيانة لامرأة العزيز خيانة للملك الجبّار، فهو حجّة واهية - كما يبدو - خاصّة أنّ حاشية القصر لا يكترثون بمثل هذه المسائل. وخلاصة القول: إنّ هذا الإرتباط في الآيات يدلّ على أنّ جميع ما ورد في السياق من كلام امرأة العزيز التي إنتبهت وتيقّظت وإعترفت بهذه الحقائق. ملاحظات 1 - هذه عاقبة التقوى رأينا في هذا القسم من قصّة يوسف أنّ عدوّته المعاندة "زليخا" إعترفت أخيراً بطهارته، كما إعترفت بذنبها وخطئها... وببراءته... وهذه عاقبة التقوى وطهارة الثوب، وهذا معنى قوله تعالى: (ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب). فكن طاهراً واستقم في طريق "الطهارة" فالله حاميك ولا يسمح للملوّثين أن يسيؤوا إليك. 2 - الهزائم التي تكون سبباً للتيقّظ لا تكون الهزائم هزائم دائماً، بل - في كثير من الأحيان - تعدّ الهزيمة هزيمةً في الظاهر إلاّ أنّها في الباطن نوع من الإنتصار المعنوي، وهذه هي الهزائم التي تكون سبباً لتيقّظ الإنسان، وتشقّ حجب الغفلة والغرور عنه، وتعدّ نقطة إنعطاف جديدة في حياته. فامرأة العزيز التي تدعى "زليخا" أو "راعيل" وإن ابتُليت في عملها بأشدّ الهزائم، لكن هذه الهزيمة في مسير الذنب كانت سبباً لأنّ تنتبه ويتيقّظ وجدانها النائم، وأن تندم على ما فات من عملها... والتفتت إلى ساحة الله. وما ينقل من قصتها بعد لقائها ليوسف وهو عزيز مصر - آنئذ - شاهد على هذا المدّعى، إذ قالت: "الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته وجعل الملوك عبيداً بمعصيته". ونقرأ في نهاية الحديث أنّ يوسف تزوّج منها أخيراً(1). السعداء هم أُولئك الذين يصنعون من الهزائم إنتصاراً، ومن سوء الحظّ حظّاً حسناً، ومن أخطائهم طريقاً صحيحاً للحياة. وبالطبع فليس ردّ الفعل من قِبل جميع الأفراد إزاء الهزائم هكذا... فالأشخاص الضعاف حين تصيبهم الهزيمة ييأسون ويكتنف القنوط جميع وجودهم، وقد يؤدّي بهم إلى الإنتحار وهذه هي الهزيمة الحقيقيّة. لكن الذين يشعرون بكرامتهم وشخصيّتهم، يسعون لأنّ يجعلوا الهزائم سلّماً لصعودهم وترقّيهم وجسراً لإنتصارهم. 3 - الحفاظ على الشرف خير من الحرية الظاهرية رأينا أنّ يوسف لم يدخل السجن لطهارة ثوبه فحسب، بل لم يكن مستعدّاً للخروج من السجن حتّى يعود مبعوث الملك ويجري التحقيقات حول النسوة اللائي قطّعن أيديهن لتثبت براءته ويخرج من السجن مرفوع الرأس... لا أن يخرج كأي مجرم ملوّث يشمله عفو الملك!! وذلك ذلّ وأي ذلّ! وهذا درس لكلّ الناس في الماضي والحاضر والمستقبل. 4 - النفس الأمّارة "المتمردّة" يقسّم علماء النفس والأخلاق النفس "وهي الإحساسات والغرائز والعواطف الإنسانية" إلى ثلاثة مراحل، وقد أشار إليها القرآن المجيد: المرحلة الأُولى: "النفس الأمّارة" وهي النفس التي تأمر الإنسان بالذنب وتجرّه إلى كلّ جانب، ولذا سمّوها "أمّارة" وفي هذه المرحلة لا يكون العقل والإيمان قد بلغا مرحلة من القدرة ليكبحا جماحها، بل في كثير من المواقع يستسلمان للنفس الأمّارة، وإذا تصارعت النفس الأمّارة مع العقل في هذه المرحلة فإنّها ستهزمه وتطرحه أرضاً. وهذه المرحلة هي التي أُشير إليها في الآية المتقدّمة، وجرت على لسان امرأة العزيز بمصر، وجميع شقاء الإنسان أساسه النفس الأمّارة بالسوء. المرحلة الثّانية: "النفس اللّوّامة" وهي التي ترتقي بالإنسان بعد التعلّم والتربية والمجاهدة، وفي هذه المرحلة ربّما يخطىء الإنسان نتيجة طغيان الغرائز، لكن سرعان ما يندم وتلومه هذه النفس، ويصمّم على تجاوز هذا الخطأ والتعويض عنه، ويغسل قلبه وروحه بماء التوبة. وبعبارة أُخرى: في المواجهة بين النفس والعقل، قد ينتصر العقل أحياناً وقد تنتصر النفس، إلاّ أنّ النتيجة والكفّة الراجحة هي للعقل والإيمان. ومن أجل الوصول إلى هذه المرحلة لابدّ من الجهاد الأكبر، والتمرين الكافي، والتربية في مدرسة الاُستاذ، والإستلهام من كلام الله وسنن الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام). وهذه المرحلة هي التي أقسم الله بها في سورة القيامة قسماً يدلّ على عظمتها (لا اُقسم بيوم القيامة ولا اُقسم بالنفس اللّوامة). المرحلة الثّالثة: "النفس المطمئنة" وهي المرحلة التي توصل الإنسان بعد التصفية والتهذيب الكامل إلى أن يسيطر على غرائزه ويروّضها فلا تجد القدرة للمواجهة مع العقل والإيمان، لأنّ العقل والإيمان بلغا درجة من القوّة بحيث لا تقف أمامهما الغرائز الحيوانية. وهذه هي مرحلة الإطمئنان والسكينة... الإطمئنان الذي يحكم المحيطات والبحار حيث لا يظهر عليها الإنهزام أمام أشدّ الأعاصير. وهذا هو مقام الأنبياء والأولياء وأتباعهم الصادقين، أُولئك الذين تدارسوا الإيمان والتقوى في مدرسة رجال الله، وهذّبوا أنفسهم سنين طوالا، وواصلوا الجهاد الأكبر إلى آخر مرحلة. وإليهم وإلى أمثالهم يشير القرآن الكريم في سورة الفجر (ياأيّتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربّك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي). اللهمّ أعنّا لنستضيء بنور آياتك، ونصعّد أنفسنا الأمّارة إلى اللّوامة ومنها إلى النفس المطمئنة... ولنجد روحاً مطمئناً لا يضطرب ولا يتزلزل أمام طوفان الحوادث، وأن نكون أقوياء أمام الأعداء، ولا تبهرنا زخارف الدنيا وزبارجها، وأن نصبر على البأساء والضرّاء. اللهمّ ارزقنا العقل لننتصر على أهوائنا... ونوّرنا إذا كنّا على خطأ بالتوفيق والهداية. اللهمّ إنّنا لم نبلغ هذه المرحلة بخُطانا، بل كنت أنت في كلّ مرحلة دليلنا وقائدنا، فلا تحبس ألطافك عنّا... وإذا كان عدم شكرنا على جميع هذه النعم مستوجباً لعقابك، فأيقظنا من نومة الغافلين قبل أن نذوق العذاب آمين ربّ العالمين. ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي﴾ عن الميل الطبيعي ﴿إِنَّ النَّفْسَ﴾ أي جنسها ﴿لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ بميلها الطبيعي إلى الشهوات ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾ أي إلا من رحمه فعصمه أو إلا وقت رحمته ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ﴾ لعباده ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم وقيل الحكاية لقول زليخا وهاء لم أخنه ليوسف.