ثمّ إنّ الاُخوة حينما عادوا من مصر (ولمّا فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم) فشاهدوا أنّ هذا الأمر هو برهان قاطع على صحّة طلبهم، فجاؤوا إلى أبيهم و (قالوا ياأبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردّت إلينا) وهل هناك فضل وكرم أكثر من هذا أن يقوم حاكم أجنبي وفي ظروف القحط والجفاف، بمساعدتنا ويبيع لنا الحبوب والمؤن ثمّ يردّ إلينا ما دفعناه ثمناً له؟!
ثمّ أنّه ردّ بضاعتنا علينا بشكل خفي بحيث لا يستثير فينا الخجل - أليس هذا غاية الجود والكرم؟!
فياأبانا ليس هناك مجال للتأخير - ابعث معنا أخانا لكي نسافر ونشتري الطعام (ونمير أهلنا) وسوف نكون جادّين في حفظ أخينا (ونحفظ أخانا)، وهكذا نتمكّن من أن نشتري كيل بعير من الحبوب (ونزداد كيل بعير) وإنّنا على يقين في أنّ سماحة العزيز وكرمه - سوف يسهّلان حصوله و (ذلك كيل يسير).
وفي كلّ الأحوال – رفض يعقوب إرسال إبنه بنيامين معهم، ولكنّه كان يواجه إصرار أولاده بمنطقهم القوي بحيث اضطرّ إلى التنازل على مطلبهم ولم يَر بدّاً من القبول، ولكنّه وافق بشرط: (قال لن أرسله معكم حتّى تؤتون موثقاً من الله لتأتنّني به إلاّ أن يحاط بكم)، والمقصود من قوله (موثقاً من الله) هو العهد واليمين المتضمّن لإسم الله سبحانه وتعالى، وأمّا جملة (إلاّ أن يحاط بكم) فهي في الواقع بمعنى - إلاّ إذا أحاطت بكم وغلبتكم الحوادث، ولعلّها إشارة إلى حوادث الموت أو غيرها من الحوادث والمصائب التي تسلب قدرة الإنسان وتقصم ظهره وتجعله عاجزاً.
وذكر هذا الإستثناء دليل بازر على ذكاء نبي الله يعقوب وفطنته، فإنّه برغم حبّه الشديد لولده بنيامين لكنّه لم يحمل أولاده بما لا يطيقوا وقال لهم: إنّكم مسؤولون عن سلامة ولدي العزيز وأنّي سوف أطلبه منكم إلاّ أن تغلبكم الحوادث القاهرة، فحينئذ لا حرج عليكم.
﴿وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي﴾ أي شيء نطلب من إحسان الملك زيادة على هذا ﴿هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾ نحمل لهم الميرة أي الطعام ﴿وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ﴾ وقر ﴿بَعِيرٍ﴾ لأجله ﴿ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ أي كيل البعير سهل على الملك أو ما جئنا به قليل لا يكفينا فنحتاج إلى الرجوع للمضاعفة والزيادة.