التّفسير
وأخيراً توجّه إخوة يوسف صوب مصر للمرّة الثانية بعد إذن أبيهم وموافقته على إصطحاب أخيهم الصغير معهم، وحينما أرادوا الخروج ودعهم أبوهم موصياً إيّاهم بقوله: (وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرّقة) ثمّ أضاف: إنّه ليس في مقدوري أن أمنع ما قد قدّر لكم في علم الله سبحانه وتعالى (وما اُغني عنكم من الله من شيء) ولكن هناك بعض الأُمور التي يمكن للإنسان أن يجتنب عنها حيث لم يثبت في حقّها القدر الإلهي المحتوم، وما أسديته لكم من النصيحة هو في الواقع لدفع هذه الأُمور الطارئة والتي بإمكان الإنسان أن يدفعها عن نفسه ثمّ قال: أخيراً (إنّ الحكم إلاّ لله عليه وتوكّلت وعليه فليتوكّل المتوكّلون).
لا شكّ في أنّ عاصمة مصر في تلك الأيّام شأنها شأن جميع البلدان، كانت تمتلك سوراً عالياً وأبواباً متعدّدة وكان يعقوب قد نصح أولاده بأن يتفرّقوا إلى جماعات صغيرة، وتدخل كلّ جماعة من باب واحد، لكن الآية السابقة لم تبيّن لنا فلسفة هذه النصيحة.
ذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ سبب هذه النصيحة هو أنّ إخوة يوسف كانوا يتمتّعون بقسط وافر من الجمال (وإن لم يكونوا كيوسف لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا إخوته) وبأجسام قويّة رشيقة، وكان الأب الحنون في قلق شديد من أنّ الفات نظر الناس إلى هذه المجموعة المكوّنة من 11 شخصاً ويدلّ سيماهم على أنّهم غرباء وإنّهم ليسوا من أهل مصر، فيصيبهم الحسد من تلك العيون الفاحصة.
ثمّ بعد هذا التّفسير - دخل المفسّرون في بحث طويل ونقاش مستمر حول موضوع تأثير العين في حياة الإنسان واستدلّوا على ذلك بشواهد عديدة من الرّوايات والتاريخ.
ونحن بحول الله وقوّته سوف نبحث عن هذا الموضوع عند حديثنا عن قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم).(1) ونثبت إنّه برغم الخرافات الكثيرة التي لفّها العوام حوله إلاّ أنّ مقداراً من هذا الأمر له حقيقة موضوعية حيث ثبت علمياً أنّ أمواج سيّالة تخرج من العين وتمتلك بعض المواصفات المغناطيسيّة.
وهناك سبب آخر ذكره المفسّرون وهو أنّ دخول هذه المجموعة إلى مصر بوجوههم المشرقة وأجسامهم الرشيقة القويمة والسير في شوارعها، قد يثير الحسد والبغضاء في بعض النفوس الضعيفة فيسعون ضدّهم عند السلطان ويظهرونهم كمجموعة أجنبية تحاول العبث بأمن البلد ونظامه، فحاول يعقوب (عليه السلام) أن يجنبهم بنصيحته عن هذه المشاكل.
وأخيراً حاول بعض المفسّرين تأويل الآية بمعنىً قد يعد ذوقياً... قال: إنّ يعقوب بنصيحته تلك أراد أن يعلم أولاده دستوراً إجتماعياً هامّاً، وهو أنّ على الإنسان أن يبحث عن ضالّته بطرق عديدة وسبل شتّى بحيث لو سُدّ طريق بوجهه لكان بمقدوره البحث عنها من طرق أُخرى حيث سيكون النصر حليفه في النهاية، أمّا إذا حاول الوصول إلى هدفه بإنتهاجه طريقاً واحداً فقط، فقد يصطدم في أوّل الطريق بعائق يمنعه عن الوصول فعند ذاك يستولي عليه اليأس ويترك السعي إليه.
﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ﴾ مصر ﴿مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾ خاف عليهم العين ﴿وَمَا أُغْنِي﴾ أدفع ﴿عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ﴾ قدر لكم ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾ لا راد لقضائه ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.