واصل الاُخوة سيرهم نحو مصر، وبعد أن قطعوا مسافة طويلة وشاسعة بين كنعان ومصر دخلوا الأراضي المصرية، وعند ذاك (ولمّا دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء) فهم برغم تفرّقهم إلى جماعات صغيرة - طبقاً لما وصّاهم به أبوهم - فإنّ الفائدة والثمرة الوحيدة التي ترتّبت على تلك النصيحة ليس (إلاّ حاجة في نفس يعقوب قضاها) وهذه إشارة إلى أنّ أثرها لم يكن سوى الهدوء والطمأنينة التي إستولت على قلب الأب الحنون الذي بعد عنه أولاده، وبقي ذهنه وفكره مشغولا بهم وبسلامتهم وخائفاً عليهم من كيد الحاسدين وشرور الطامعين، فما كان يتسلّى به في تلك الأيّام لم يكن سوى يقينه القلبي بأنّ أولاده سوف يعملون بنصيحته.
ثمّ يستمرّ القرآن في مدح يعقوب ووصفه بقوله: (وإنّه لذو علم لما علّمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وهذه إشارة إلى أنّ كثيراً من الناس يتيهون في الأسباب وينسون قدرة الله سبحانه وتعالى ويتصوّرون أنّ ما يصيب الإنسان من الشرور إنّما هو من الآثار الملازمة لبعض العيون فيتوسلّون بغير الله سبحانه وتعالى لدفع هذه الشرور ويغفلون عن التوكّل على الله سبحانه وتعالى والإعتماد عليه، إلاّ أنّ يعقوب كان عالماً بأنّه بدون إرادة الله سبحانه وتعالى لا يحدث شيء، فكان يتوكّل في الدرجة الأُولى على الله سبحانه وتعالى ويعتمد عليه، ثمّ يبحث عن عالم الأسباب ومن هنا نرى في الآية (102) من سورة البقرة إنّ القرآن يصف سحرة بابل وكهنتها بأنّهم (وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله) وهذه إشارة إلى أنّ القادر الوحيد هو الله سبحانه وتعالى، فلابدّ من الإعتماد والإتّكال عليه لا على سواه.
﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم﴾ أي من أبواب متفرقة ﴿مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم﴾ دخولهم كذلك ﴿مِّنَ اللّهِ﴾ من قضائه ﴿مِن شَيْءٍ﴾ تصديق ليعقوب ﴿إِلاَّ﴾ لكن ﴿حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا﴾ أي شفقة في نفس يعقوب أبداها ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ﴾ ففعله وقوله عن علم ﴿لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ من أجل تعليمنا إياه ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ هم المشركون ﴿لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ما ألهم الله أولياءه.