لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وحينئذ أمر يوسف الموظفين والعمال بأنّ تنزل رحالهم من على ظهور الجمال ويفتح متاعهم وأن يبحثوا فيها واحداً بعد واحد ودون إستثناء، وتجنّباً عن إنكشاف الخطّة أمر يوسف بأن يبدأوا البحث والتفتيش في أمتعة الاُخوة أوّلا قبل أمتعة أخيه بنيامين، لكنّهم وجدوه أخيراً في أمتعة بنيامين (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثمّ إستخرجها من وعاء أخيه). بعد أن عثر على الصاع في متاع بنيامين، إستولى الإرتباك والدهشة على الاُخوة، وصعقتهم هذه الواقعة ورأوا أنفسهم في حيرة غريبة، فمن جهة قام أخوهم بعمل قبيح وسرق صواع الملك، وهذا يعود عليهم بالخزي والعار، ومن جهة أُخرى انّ هذا العمل سوف يفقدهم إعتبارهم ونفوذهم عند الملك خصوصاً مع حاجتهم الشديدة إلى الطعام، وإضافةً إلى كلّ هذا، كيف يجيبون على إستفسارات أبيهم؟ وكيف يقنعونه بذنب إبنه وعدم تقصيرهم في ذلك؟ قال بعض المفسّرين: إنّه بعد أن عثر على الصاع توجّه الاُخوة إلى بنيامين وعاتبوه عتاباً شديداً، فقالوا له: ألا تخجل من فعلك القبيح قد فضحتنا وفضحت أباك يعقوب، وآل يعقوب... قل لنا كيف سرقت الصاع ووضعته في رحلك؟ أجابهم بنيامين ببرود، حيث كان عالماً بالقضيّة وأسرارها: إنّ الذي قام بهذا العمل ووضع الصواع في رحلي، هو نفسه الذي وضع الأموال في متاعكم في المرّة السابقة، لكن الاُخوة لم ينتبهوا - لهول الواقعة عليهم - لمغزى كلام بنيامين(1). ثمّ يستمرّ القرآن الكريم ويبيّن كيف إستطاع يوسف أن يأخذ أخاه بالخطّة التي رسمها الله له دون أن يثير في اُخوته أي نوع من المقاومة والرفض (كذلك كدنا ليوسف). والأمر المهمّ في هذه القضيّة هو أنّه لو أراد يوسف أن يعاقب أخاه بنيامين، وطبقاً للقانون المصري - لكان عليه أن يضرب أخاه ويودعه السجن لكن مثل هذه المعاملة كانت تخالف رغبات وأهداف يوسف للإحتفاظ بأخيه، ومن هنا وقبل القبض على بنيامين، سأل إخوته عن عقوبة السارق عندهم، فاعترفوا عنده بأنّ السنة المتّبعة عندهم في معاقبة السارق أن يعمل السارق عند المعتدى عليه كالعبد. لا ريب إنّ للعقوبة والجزاء طرقاً عديدة منها أن يعاقب المعتدي على طبق ما يعاقب به في قومه، وهكذا عامل يوسف أخاه بنيامين، وتوضيحاً لهذه الحالة وأنّ يوسف لم يكن بإمكانه أخذ أخيه طبقاً للدستور المصري يقول القرآن الكريم: (وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) لكن الله سبحانه وتعالى يستثني بقوله: (إلاّ أن يشاء الله) وهو إشارة إلى أنّ ما فعله يوسف بأخيه لم يكن إلاّ بأمر منه سبحانه وتعالى وطبقاً لإرادته في الإحتفاظ ببنيامين، وإستمراراً لإمتحان يعقوب وأولاده. وأخيراً يضيف القرآن الكريم ويقول: إنّ الله سبحانه يرفع درجات من إستطاع أن يفوز في الإمتحان ويخرج مرفوع الرأس كما حدث ليوسف (نرفع درجات من نشاء) ولكن في كلّ الأحوال فانّ الله تعالى عليم يهدي الإنسان إلى سواء السبيل وهو الذي أوقع هذه الخطّة في قلب يوسف وألهمه إيّاها (وفوق كلّ ذي علم عليم). بحوث الآيات السابقة تثير أسئلة كثيرة فلابدّ من الإجابة عليها: 1 - لماذا لم يعترف يوسف بالحقيقة لماذا لم يعترف يوسف بالحقيقة لاُخوته لينهي - وفي أسرع وقت ممكن - مأساة أبيه وينجيه من العذاب الذي كان يعيشه؟ الجواب على هذا السؤال: هو ما مرّ علينا خلال البحث، من أنّ الهدف كان إمتحان يعقوب وأولاده وإختبار مدى تحمّلهم وصبرهم على الشدائد والمصائب، وبتعبير آخر: لم تكن هذه الخطّة أمراً عفوياً دون تفكير، وإنّما نفذت طبقاً لأوامر الله سبحانه وتعالى وإرادته في إختبار يعقوب ومدى صبره على مصيبة فقد ثاني أعزّ أولاده، لكي تكمل سلسلة الإمتحانات ويفوز بالدرجات العالية التي يستحقّها، كما كانت الخطّة إختباراً لاُخوة يوسف في مدى تحمّلهم للمسؤولية وقدرتهم على حفظ العهد ومراعاة الأمانة التي قطعوها مع أبيهم. 2 - لماذا اتّهم يوسف أخاه؟ هل يجوز شرعاً أن يتّهم الإنسان بريئاً لم يرتكب ذنباً، ولم تقتصر آثار هذه التّهمة على البريء وحده، بل تشمل الآخرين من قريب أو بعيد؟ كما هو الحال في يوسف حيث شمل اتّهامه الاُخوة وسبب لهم مشاكل عديدة. يمكن معرفة الجواب بعد وقوفنا على أنّ توجيه هذه التّهمة لبنيامين كان باتّفاق مسبق بينه وبين يوسف، وكان عارفاً بأنّ هدف الخطّة وتوجيه التهمة إليه لأجل بقائه عند يوسف، أمّا بالنسبة للآثار السلبية المترتّبة على الاُخوة فإنّ اتّهام بنيامين بالسرقة لم يكن في الواقع اتّهاماً مباشراً لاُخوته وإنّ سبب لهم بعض التشويش والقلق ولا مانع من ذلك بالنظر إلى إمتحان مهم. 3 - لماذا اتّهام الجميع بالسرقة؟ مرّ علينا في الآية الشريفة قوله تعالى: (إنّكم سارقون) وهذه في الواقع تهمة موجّهة إلى الجميع وهي تهمة كاذبة، فما المسوغ والمجوّز الشرعي لمثل هذا الإتّهام الباطل؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال في عدّة نقاط وهي: أوّلا: إنّ قائل هذه الجملة غير معلوم، حيث ورد في القرآن إنّه (قالوا...) ولعلّ القائلين هم بعض الموظفين من عمّال يوسف والمسؤولين عن حماية خزائن الحبوب، فهم حينما إفتقدوا صواع الملك، اطمأنّوا بأنّ السارق هو أحد أفراد القافلة القادمة من كنعان، فوجّهوا الخطاب إليهم جميعاً، وهذا من الأُمور الطبيعيّة، فحينما يقوم شخص مجهول في ضمن مجموعة معيّنة بعمل ما، فإنّ الخطاب يوجّه إليهم جميعاً ويقال لهم: إنّكم فعلتم هذا العمل، والمقصود إنّ أحد هذا المجموعة أو بعضها قد فعل كذا. ثانياً: الطرف الذي وجّهت إليه التّهمة وهو بنيامين، كان موافقاً على توجيه هذه التهمة له، لأنّ التهمة كانت مقدّمة للخطّة المرسومة والتي كانت تنتهي ببقائه عند أخيه يوسف، وأمّا شمول الإتّهام لجميع الاُخوة ودخولهم جميعاً في دائرة الظنّ بالسرقة، فإنّ كلّ ذلك كان إتّهاماً مؤقتاً حيث زالت بمجرّد التفتيش والعثور على الصواع وظهر المذنب الواقعي. قال بعض المفسّرين: إنّه قصد بالسرقة - فيما نسبوه إلى اُخوة يوسف - هو ما اقترفوه سابقاً من سرقة الاُخوة يوسف من أبيه، لكن هذا التوجيه يتمّ إذا كانت التهمة قد وجهت إليهم من قبل يوسف، لأنّه كان عالماً بالذنب الذي ارتكبوه، ولعلّ ما ورد في ذيل الآية الشريفة يدلّ على ذلك، حيث قال العمّال إنّنا: (نفقد صواع الملك) ومثل هذا الخطاب لا يتضمّن توجيه السرقة إليهم، (ولكن الجواب الأوّل أصح ظاهراً). 4 - عقوبة السرقة في تلك الأزمنة يستفاد من الآيات السابقة أنّ عقوبة السرقة عند المصريين كانت تختلف عنها عند الكنعانيين، فعند اُخوة يوسف (آل يعقوب) ولعلّه عند الكنعانيين كانت العقوبة هي عبودية السارق (بصورة دائمة أو مؤقتة) لأجل الذنب الذي إقترفه(2). لكن المصريين لم يجازوا السارق بالعبودية الدائمة أو المؤقتة، وإنّما كانوا يعاقبون المذنب بالضرب المبرح أو السجن، وفي كلّ الأحوال لا يستفاد من قوله تعالى: (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) إنّ الشرائع السّماوية كانت تحدّد عقوبة السارق بالعبودية، ولعلّها كانت سنّة متّبعة عند بعض المجتمعات في تلك الأزمنة، وقد ذكر المؤرخّون في تاريخ العبودية إنّ بعض المجتمعات التي كانت تدين بالشرائع الخرافية، كانوا يعاقبون المدين العاجز عن سداد دينه بالعبودية للمدين. 5 - السقاية أو الصواع يلاحظ في الآيات السابقة أنّ الله سبحانه وتعالى يعبّر عن الكيل تارةً بـ(الصواع) وأُخرى بـ(السقاية)، والظاهر أنّهما صفتان لشيء واحد، حيث ورد في بعض المصادر أنّ هذا الصاع كان في أوّل الأمر كأساً يسقى به الملك، ثمّ حينما عمّ القحط والغلاء في مصر وصار الطعام والحبوب يوزّع على الناس حسب الحصص، إستعمل هذا الكأس الثمين لكيل الطعام وتوزيعه، وذلك إظهاراً لأهميّة الحبوب وترغيباً للناس في القناعة وعدم الإسراف في الطعام. ثمّ إنّ المفسّرين ذكروا أوصافاً عديدة لهذا الصاع، حيث قال بعضهم أنّها كانت من الفضّة وقال آخرون: إنّها كأس ذهبية، وأضاف آخرون أنّ الكأس كان مطعماً بالجواهر والأحجار الكريمة، وقد وردت في بعض الرّوايات الضعيفة إشارة إلى هذه الأُمور، لكن ليس لنا دليل قطعي وصريح على صحّة كلّ هذه المذكورات، إلاّ ما قيل من أنّ هذا الصاع كان في يوم من الأيّام كأساً يُسقى به ملك مصر، ثمّ صار كيلا للطعام، ومن البديهي أنّه لابدّ وأن يكون لهذا الصاع صبغة رمزية وإعتبارية للدلالة على أهمية الطعام وتحريض الناس على عدم الإسراف فيه، إذ لا يعقل أن يكون الجهاز الذي يوزن به كلّ ما يحتاجه البلد من الطعام والحبوب، هو مجرّد كأس كان يستعمله الملكْ في يوم من الأيّام. وأخيراً فقد مرّ علينا خلال البحث أنّ يوسف قد اُختير مشرفاً على خزائن الدولة، ومن الطبيعي أن يكون الصاع الملكي الثمين في حوزته، فحينما حكم على بنيامين بالعبودية صار عبداً لمن كان الصاع في يده (أي يوسف) وهذه هي النتيجة التي كان يوسف قد خطّط لها. ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ﴾ ففتشها ﴿قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ﴾ إزالة للتهمة ﴿ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا﴾ أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث ﴿مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ﴾ الكيد ﴿كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ علمناه الاحتيال في أخذ أخيه ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ حكم ملك مصر لأن حكمه الضرب وتغريم ضعف ما سرق لا الاسترقاق ﴿إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ﴾ لكن بمشيئة الله أخذه بدين أبيه أي لم يتمكن من أخذه إلا بمشيئة الله بإلهامه أن سأل إخوته ما جزاؤه وجوابهم بشرعهم ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء﴾ بالعلم كما رفعنا درجته ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ حتى ينتهي إلى الله.