التّفسير
اليأس علامة الكفر!
كان القحط والغلاء وشحّة الطعام يشتدّ يوماً بعد آخر في مصر وما حولها ومنها كنعان، ومرّة أُخرى أمر يعقوب أولاده بأن يتّجهوا صوب مصر للحصول على الطعام، لكنّه هذه المرّة طلب منهم بالدرجة الأُولى أن يبحثوا عن يوسف وأخيه بنيامين، حيث قال لهم: (يابني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه).
لكن بما أنّ أولاد يعقوب كانوا مطمئنين إلى هلاك يوسف وعدم بقاءه، تعجّبوا من توصية أبيهم وتأكيده على ذلك، لكن يعقوب نهاهم عن اليأس والقنوط ووصّاهم بالإعتماد على الله سبحانه والإتّكال عليه بقوله: (ولا تيأسوا من روح الله) فإنّه القادر على حلّ الصعاب و (إنّه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون).
(تحسّس) أصله من (حس) بمعنى البحث عن الشيء المفقود بأحد الحواس، وهنا بحث بين اللغويين والمفسّرين في الفرق بينه وبين (تجسّس) وقد نقل عن ابن عبّاس أنّ التحسّس هو البحث عن الخير، والتجسّس هو البحث عن الشرّ، لكن ذهب آخرون إلى أنّ التحسّس هو السعي في معرفة سيرة الأشخاص والأقوام دون التجسّس الذي هو البحث لمعرفة العيوب.
وهنا رأي ثالث في أنّهما متّحدان في المعنى، إلاّ أنّ ملاحظة الحديث الوارد بقوله: "لا تجسّسوا ولا تحسّسوا" يثبت لنا أنّهما مختلفان وأنّ ما ذهب إليه ابن عبّاس في الفرق بينهما هو الأوفق بسياق الآيات المذكورة، ولعلّ المقصود منهما في هذا الحديث الشريف: لا تبحثوا عن اُمور الناس وقضاياهم سواء كانت شرّاً أم خيراً.
قوله تعالى "روح" بمعنى الرحمة والراحة والفرج والخلاص من الشدّة.
يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته (الرَّوْحُ والرُّوحُ في الأصل واحد وجعل الروح إسماً للنّفس... والرَّوح التنفّس وقد أراح الإنسان إذا تنفّس...).
وأخيراً جمع الاُخوة متاعهم وتوجّهوا صوب مصر، وهذه هي المرّة الثّالثة التي يدخلون فيها أرض مصر، هذه الأرض التي سبّبت لهم المشاكل وجرّت عليهم الويلات.
لكن في هذه السفرة - خلافاً للسفرتين السابقتين - كانوا يشعرون بشيء من الخجل يعذّب ضمائرهم فإنّ سمعتهم عند أهل مصر أو العزيز ملوّثة للوصمة التي لصقت بهم في المرّة السابقة، ولعلّهم كانوا يرونهم بمثابة (مجموعة من لصوص كنعان) الذين جاؤوا للسرقة.
ومن جهة أُخرى لم يحملوا معهم هذه المرّة من المتاع ما يستحقّ أن يعاوضوه بالطعام والحبوب، إضافةً إلى هذه الأُمور فإنّ فقد أخيهم بنيامين والآلام التي ألمّت بأبيهم كانت تزيد من قلقهم وبتعبير آخر فإنّ السكين قد وصلت إلى العظم، كما يقول المثل إلاّ أنّ الذي كان يبعث في نفوسهم الأمل ويعطيهم القدرة على تحمّل الصعاب هو وصيّة أبيهم (لا تيأسوا من روح الله).
﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ﴾ فتفحصوا ﴿مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ اطلبوا خبرهما ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ﴾ من رحمته وفرجه ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.