لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وفي تلك اللحظة، وبعد أن مضت أيّام الإمتحان الصعب - وكان قد إشتدت محنة الفراق على يوسف وظهرت عليه آثار الكآبة والهمّ، أراد أن يعرّف نفسه لإخوته فابتدرهم بقوله: (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون). لاحظوا عظمة يوسف وعلوّ نفسه حيث يسألهم أوّلا عن ذنبهم لكن بهذه الكناية اللطيفة يقول: (ما فعلتم) وثانياً يبيّن لهم طريقة الإعتذار وأنّ ما ارتكبوه في حقّ إخوتهم إنّما صدر عن جهلهم وغرورهم، وأنّه قد مضى أيّام الصبى والطفولة وهم الآن في دور الكمال والعقل! كما أنّه يفهم من الآية الشريفة أنّ يوسف لم يكن وحده الذي ابتلي بإخوته ومعاملتهم السيّئة، بل إنّ بنيامين أيضاً كان يقاسي منهم ألوان العذاب، ولعلّه قد شرح لأخيه يوسف في الفترة التي قضاها في مصر، جانباً ممّا عاناه تحت أيديهم، ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ يوسف حينما استفسر عمّا فعلوه معه ومع أخيه ختم إستفساره بإبتسامة عريضة ليدفع عن أذهانهم إحتمال أنّه سوف ينتقم منهم فظهرت لإخوته أسنانه الجميلة ولاحظوا وتذكّروا الشبه بينه وبين أسنان أخيهم يوسف(3). أمّا هم، فإنّهم حينما لاحظوا هذه الأُمور مجتمعة، وشاهدوا أنّ العزيز يتحدّث معهم ويستفسرهم عمّا فعلوه بيوسف، تلك الأعمال التي لم يكن يعلمها أحد غيرهم إلاّ يوسف. ومن جهة أُخرى أدهشهم يوسف وما أصابه من الوجد والهياج حينما إستلم كتاب يعقوب، وأحسّوا بعلاقة وثيقة بينه وبين صاحب الرسالة. وثالثاً كلّما أمعنوا النظر في وجه العزيز ودقّقوا في ملامحه، لاحظوا الشبه الكبير بينه وبين أخيهم يوسف... لكنّهم في نفس الوقت لم يدر بخلدهم ولم يتصوّروا أنّه يمكن أن يكون أخوهم يوسف قد إرتقى منصب الوزارة وصار عزيزاً لمصر، أين يوسف وأين الوزارة والعزّة؟! لكنّهم تجرّأوا أخيراً وسألوه مستفسرين منه (قالوا أءنّك لأنت يوسف). كانت هذه الدقائق أصعب اللحظات على الإخوة، حيث لم يكونوا يعرفون محتوى إجابة العزيز! وأنّه هل يرفع الستار ويظهر لهم حقيقته، أم أنّه سوف يعتقد بأنّهم مجانين حيث ظنّوا هذا الظنّ. كانت اللحظات تمرّ بسرعة والإنتظار الطويل يثقل على قلوبهم فيزيد في قلقهم، لكن يوسف لم يدع اُخوته يطول بهم الإنتظار ورفع الحجاب بينه وبينهم وأظهر لهم حقيقة نفسه و (قال أنا يوسف وهذا أخي) لكن لكي يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعمه من جميع هذه المواهب والنعم، ولكي يعلّم إخوته درساً آخر من دروس المعرفة قال: إنّه (قدّ منّ الله علينا إنّه من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين). لا يعرف أحد كيف مرّت هذه اللحظات الحسّاسة على الإخوة كما لا يعرف أحد مدى إنفعالهم وما خامرهم من السرور والفرح وكيف تعانقوا واحتضنوا أخاهم والدموع الغزيرة التي ذرفوها وذلك حينما التقوا بأخيهم وبعد عشرات السنين من الفراق، لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا لا يطيقون النظر إلى وجه أخيهم يوسف لعلمهم بالذنب والجريمة التي اقترفوها في حقّه، فترقّبوا إجابة يوسف وأنّه هل يغفر لهم إساءتهم إليه ويعفو عن جريمتهم أم لا؟ فابتدأوا مستفسرين بقولهم: (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا)(4) أي أنّ الله سبحانه وتعالى قد فضّلك علينا بالعلم والحلم والحكومة (وإن كنّا لخاطئين)(5). أمّا يوسف الذي كانت نفسه تأبى أن يرى إخوته في حال الخجل والندامة - خاصّة في هذه اللحظات الحسّاسة وبعد إنتصاره عليهم - أو لعلّه أراد أن يدفع عن أذهانهم ما قد يتبادر إليها من إحتمال أن ينتقم منهم، فخاطبهم بقوله: (قال لا تثريب عليكم اليوم)(6) أي أنّ العتاب والعقاب مرفوع عنكم اليوم، اطمئنوا وكونوا مرتاحي الضمير ولا تجعلوا للآلام والمصائب السابقة منفذاً إلى نفوسكم، ثمّ لكي يبيّن لهم أنّه ليس وحده الذي أسقط حقّه وعفا عنهم، بل إنّ الله سبحانه وتعالى أيضاً عفا عنهم حينما أظهروا الندامة والخجل قال لهم: (يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) أي إنّ الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لأنّه أرحم الراحمين. وهذا دليل على علو قدر يوسف وغاية فضله حيث إنّه لم يعف عن سيّئات إخوته فحسب، بل رفض حتّى أن يوبّخ ويعاتب إخوته - فضلا عن أن يجازيهم ويعاقبهم - إضافةً إلى هذا فإنّه طمأنهم على أنّ الله سبحانه وتعالى رحيم غفور وأنّه تعالى سوف يعفو عن سيّئاتهم، وإستدلّ لهم على ذلك بأنّ الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين. ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ﴾ من القبيح ﴿وَأَخِيهِ﴾ من إفراده عن شقيقه وإذلاله ﴿إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ قبحه لغرة الصبا، تلقين لهم بالعذر وحث على التوبة.