أمّا الذين كانوا مع يعقوب - وهم عادةً أحفاده وأزواج أولاده وغيرهم من الأهل والعشيرة - فقد إستولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين: (قالوا تالله إنّك لفي ضلالك القديم) أليس هذا برهاناً واضحاً على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنّك لا زلت تزعم أنّه حي، وأخيراً تقول: إنّك تشمّ رائحته من مصر؟!
أين مصر وأين الشام وكنعان؟!
وهذا دليل على بعدك عن عالم الواقع وإنغماسك في الأوهام والخيالات لكنّك قد ضللت منذ مدّة طويلة، ألم تقل لأولادك قبل فترة اذهبوا إلى مصر وتحسّسوا عن أحوال يوسف!
يظهر من هذه الآية الشريفة أنّ المقصود بـ(الضلال) ليس الإنحراف في العقيدة، بل الإنحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلّقة به، لكن يستفاد من هذه التعابير أنّهم كانوا يتعاملون مع هذا النّبي الكبير والشيخ المتيقّظ
الضمير بخشونة وقساوة بالغين بحيث كانوا يقولون له مرّة: (إنّ أبانا في ضلال مبين) وهنا قالوا له: (إنّك لفي ضلالك القديم) لكنّهم كانوا غافلين عن الحقيقة التي كان يتحلّى بها يعقوب وعن صفاء قلبه، ويتصوّرون أنّ قلب يعقوب كقلوبهم القاسية المظلمة وأنّه لا يطّلع على حقائق الأُمور ماضيها ومستقبلها.
وتمضي الليالي والأيّام ويعقوب في حالة الإنتظار... الإنتظار القاسي الذي يستبطن السرور والفرح والهدوء والإطمئنان، إلاّ أنّ المحيطين به كانوا مشغولين عن هذه الأُمور لإعتقادهم بأنّ قضيّة يوسف مختومة وإلى الأبد.
وبعد عدّة أيّام من الإنتظار - والتي لا يعلم إلاّ الله كيف قضاها يعقوب - إرتفع صوت المنادي معلناً عن وصول قافلة كنعان من مصر، لكن في هذه المرّة - وخلافاً للمرّات السابقة - دخل أولاد يعقوب إلى المدينة فرحين مستبشرين، وتوجّهوا مسرعين إلى بيت أبيهم، وقد سبقهم الـ(بشير) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف وألقى قميص يوسف على وجهه.
﴿قَالُواْ﴾ له ﴿تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾ بعدك عن الصواب بإفراطك في حبه ورجاء لقائه.