لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
أمّا يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات، فقد أجابهم دون أن يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقّه وحقّ أخيهم... أجابهم بقوله: (سوف استغفر لكم ربّي) وأملي معقود بأن يغفر الله سبحانه وتعالى ذنوبكم (إنّه هو الغفور الرحيم). ملاحظات 1 - كيف أحسّ يعقوب برائحة قميص يوسف؟! هذا سؤال أثاره كثير من المفسّرين، واعتبروه معجزة خارقة للعادة من قبل يعقوب أو يوسف. إلاّ أنّه - مع الأخذ بنظر الإعتبار سكوت القرآن عن هذا الأمر - ولم يتناوله على أنّه أمر إعجازي أو غير إعجازي فمن الهيّن أن نجد له توجيهاً علميّاً أيضاً. إذ أنّ حقيقة "التليبائي" أو إنتقال الفكر من النقاط أو الأماكن البعيدة تُعدّ مسألة علميّة قطعيّة مسلّماً بها... وأنّها تحدث عند من تكون لديهم علاقة قريبة تربط بعضهم ببعض، أو تكون لديهم قدرة روحيّة عالية. ولعلّ كثيراً منّا يواجه مثل هذه المسألة في حياتنا اليوميّة، وذلك أن يشعر شخص "من أب، أو اُمّ، أو أخ" مثلا بالكآبة وإنقباض النفس دون سبب، ثمّ لا يمضي وقت - أو فترة - حتّى يبلغه خبر بأنّ أخاه أو ولده قد حدث له حادث ما في نقطة بعيدة عنه. فالعلماء يوجّهون هذا الإحساس على أنّه جرى عن طريق إنتقال الفكر. وما ورد في قصّة يعقوب لعلّه من هذا القبيل أيضاً، فعلاقته الشديدة بيوسف وعظمة روحه، كلّ ذلك كان سبباً لأنّ يشعر بالحالة الحاصلة للاُخوة نتيجة حمل قميص يوسف من مسافة بعيدة. ومن الممكن أن يتعلّق هذا الأمر بمسألة سعة دائرة علم الأنبياء أيضاً. وقد وردت إشارة طريفة - في بعض الرّوايات - إلى مسألة إنتقال الفكر، وهي أنّ بعضهم سأل الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السلام): فقال: جُعلت فداك، ربّما حزنت من دون مصيبة تُصيبني أو أمر ينزل بي، حتّى يعرف ذلك أهلي في وجهي وصديقي. فقال (عليه السلام): "نعم ياجابر، إنّ الله خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى فيهم من ريح روحه، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه واُمّه، فإذا أصاب روحاً من تلك الأرواح في بلد من البلدان حُزنٌ حزنت هذه لأنّها منها"(2). ويستفاد من بعض الرّوايات أيضاً أنّ هذا القميص لم يكن قميصاً مألوفاً، بل كان ثوباً من ثياب الجنّة، وقد خلّفه إبراهيم الخليل (عليه السلام) في آل يعقوب وأُسرته ليكون ذكرى له، وأنّ رجلا كيعقوب (عليه السلام) الذي كانت لديه شامّة من "الجنّة" أحسّ برائحة هذا الثوب الذي هو من ثياب الجنّة من بعيد(3). 2 - إختلاف حالات الأنبياء: الإشكال المعروف الآخر هنا هو ما أثاره بعضهم في شأن يعقوب من سؤال وهو: كيف يمكن أن يكون هذا النّبي العظيم قد أحسّ بريح قميص يوسف من مسافة قدّرها بعضهم بثمانين فرسخاً، وقال بعضهم: من مسافة عشرة أيّام، مع أنّه لم يطّلع على الحوادث القريبة منه التي مرّت على يوسف عندما اُلقي في الجبّ في أرض كنعان؟ والجواب على هذا السؤال - مع الإلتفات إلى ما ذكرناه آنفاً في شأن علم الغيب، وحدود علم الأنبياء والأئمّة - يسير لا غبار عليه، لأنّ علمهم بالأُمور الغيبيّة يستند إلى علم الله وإرادته، وما يشاؤه الله لهم من العلم "أو عدمه" حتّى ولو كان ذلك في أقرب نقطة من نقاط العالم. فيمكن تشبيههم من هذا الوجه بالقافلة التي تسير في ليل مظلم في صحراء تغشيها الغيوم وبينا هي على هذه الحال وإذا السّماء تومض بالبرق اللامع فتضيء الصحراء إلى منتهى أطرافها، فترى القافلة باُمّ أعينها كلّ شيء أمامها، إلاّ أنّ البرق ينطفىء ثانيةً ويستوعب الظلام كلّ مكان فلا يرى أحد شيئاً. ولعلّ الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في شأن علم الإمام (عليه السلام) إشارة إلى هذا المعنى، إذ جاء عنه (عليه السلام) أنّه قال: "جعل الله بينه وبين الإمام عموداً من نور، ينظر الله به إلى الإمام، وينظر الإمام به إليه، فإذا أراد علم شيء نظر في ذلك النّور فعرفه"(4). ومع الإلتفات إلى هذه الحقيقة، فلا مجال للتعجّب بأن تقتضي مشيئة الله سبحانه - لإبتلاء يعقوب وتمحيصه أن لا يعرف يوماً شيئاً عن الحوادث في كنعان وهي تجري قريباً منه، وأن يحسّ برائحة قميص ولده يوسف وهو في مصر في يوم آخر عندما قُدّر له أن تنتهي محنته وبلواه. 3 - كيف رُدّ على يعقوب بصره؟! احتمل بعض المفسّرين أنّ يعقوب (عليه السلام) لم يفقد بصره بصورة كليّة، وإنّما ضعف بصره، وعند حصول مقدّمات الوصال تبدّل تبدّلا بحيث عاد ذلك البصر إلى حالته الطبيعيّة الأُولى، إلاّ أنّ ظاهر آيات القرآن يدلّ على أنّه فقد بصره تماماً وابيضّت عيناه من الحزن، وعلى ذلك فإنّ بصره عاد إليه عن طريق الإعجاز، حيث يقول القرآن الكريم: (فارتدّ بصيراً). 4 - الوعد بالإستغفار: نقرأ في الآيات - محل البحث - أنّ يوسف (عليه السلام) قال لإخوته عندما أظهروا له ندامتهم: (يغفر الله لكم) إلاّ أنّ يعقوب (عليه السلام) قال لهم عندما اعترفوا عنده بالذنب وأظهروا الندامة: (سوف استغفر لكم) وكان هدفه - كما تقول الرّوايات - أن يؤخّر إستجابة طلبهم الاستغفار إلى السحر (من ليلة الجمعة) الذي هو خير وقت لإستجابة الدعاء وقبول التوبة(5). والآن ينقدح هذا السؤال وهو: كيف أجابهم يوسف بصورة قطعيّة، وأوكل أبوهم ذلك إلى المستقبل؟! ولعلّ هذا الإختلاف ناشىء عن أنّ يوسف (عليه السلام) كان يتحدّث عن "إمكان المغفرة" وأنّ هذا الذنب من الممكن أن يعفو الله عنه، ويعقوب كان يتحدّث عن "فعليّة المغفرة" وأنّه ما الذي ينبغي أن يفعل حتّى تتحقّق التوبة والمغفرة "فلاحظوا بدقّة". 5 - التوسّل جائز: يستفاد من الآيات - آنفة الذكر - أنّ طلب الإستغفار من الآخرين غير مناف للتوحيد، بل هو سبيل إلى الوصول إلى لطف الله سبحانه، وإلاّ فكيف كان يمكن ليعقوب أن يستجيب لطلب أبنائه في أن يستغفر لهم وأن يجيبهم بالإيجاب على توسّلهم به. وهذا الأمر يدلّ على أن التوسّل بأولياء الله جائز على الإجمال، والأشخاص الذين يرون ذلك مخالفاً لأصل التوحيد غافلون عن نصوص القرآن، أو أنّ التعصّب المقيت يحجب أبصارهم عن تلك النصوص. 6 - نهاية الليلة السوداء إنّ الدرس الكبير الذي نستلهمه من الآيات المتقدّمة هو أنّه مهما كانت المشاكل والحوادث صعبة وعسيرة، ومهما كانت الأسباب والعلل الظاهرية غير تامّة ومحدودة، ومهما كان النصر أو الفرج بطيئاً (أو غير متحقّق فعلا) فإنّ أيّاً من أُولئك لا يمنع من الرجاء والأمل بلطف الله، فالله الذي أعاد البصر برائحة القميص ونقل رائحة ذلك القميص من مسافة بعيدة، وردّ العزيز المفتقد بعد سنين طويلة، قادر على أن يضمّد القلوب المجروحة من الفراق، وأن يشفي آلام النفوس. أجل إنّنا نجد الدرس التوحيدي الكبير ينطوي في هذا القصص والتاريخ، وهو أنّه لا شيء على الله بعزيز ولا عسير، بل يهون كلّ شيء بأمره وإرادته. (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون). ﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ روي أخره إلى السحر ليلة الجمعة.