وهذا هو الذي يراه الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، ففي حديث رواه الحسين بن خالد قال: سألت الإمام أبا الحسن الرضا (عليه السلام): ما المقصود في قوله تعالى: (والسّماء ذات الحبك) قال: هذه السّماء لها طرق إلى الأرض، فقلت له: كيف تكون لها طرق إلى الأرض في الوقت الذي يقول سبحانه وتعالى: (رفع السّماوات بغير عمد) فأجابه الإمام: "سبحان الله، أليس الله يقول بغير عمد ترونها؟ قلت بلى، فقال: ثمّ عمد ولكن لا ترونها"(3).
إنّ هذه الآية بالرغم من وجود هذا الحديث الذي يفسّرها، فإنّها تكشف عن حقيقة علمية لم تكن معروفة عند نزول الآيات الكريمة، لأنّه في ذاك الوقت كانت نظرية "بطليموس" في الهيئة تتحكّم بكلّ قواها في المحافل العلمية في العالم وعلى أفكار الناس، وطبقاً لهذه النظرية فإنّ السّماوات عبارة عن أجرام متداخلة تشبه قشور البصل، وإنّها لم تكن معلّقة وبدون عمد، بل كلّ واحدة منها تستند إلى الأُخرى.
ولكن بعد نزول هذه الآيات بألف سنة تقريباً توصل علم الإنسان إلى أنّ هذه الفكرة غير صحيحة، فالحقيقة إنّ الأجرام السّماوية لها مقرّ ومدار ثابت، ولا تستند إلى شيء، فالشيء الوحيد الذي يجعلها مستقرّة وثابتة في مكانها هو تعادل قوّة التجاذب والتنافر، فالأُولى تربط الأجرام فيما بينها، والأُخرى لها علاقة بحركتها.
هذا التعادل للقوّتين الذي يشكّل أعمدة غير مرئيّة يحفظ الأجرام السّماوية ويجعلها مستقرّة في مكانها.
وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بخصوص هذا الموضوع قال: "هذه النّجوم التي في السّماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور"(4).
وهل نجد أوضح من هذا الوصف "عمود غير مرئي" أو "عمود من نور" في أدب ذلك العصر لبيان أمواج الجاذبية وتعادل قوّتي الجذب والدفع.
وللإطلاع أكثر راجع كتابالقرآن وآخر الرسلصفحة 166 وما بعدها.
(ثمّ إستوى على العرش) في خصوص معنى العرش والإستواء عليه هناك شرح واف عنه في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف.
وبعد أن بيّن خلق السّماوات وهيمنة الخالق عليها، تحدّث عن تسخير الشمس والقمر (وسخّر الشمس والقمر).
ما أعظم هذا التسخير الذي يقع تحت إرادة ومشيئة الخالق، وفي خدمة الوجود الإنساني والكائنات الحيّة حيث يشعّ نورهما وتضيئان العالم، وتحافظان على دفء الكائنات وتساعدانها على النمو، وتخلقان ظاهرة الجزر والمدّ في البحار، وخلاصة القول إنّهما منشأ لجميع البركات، ولكن هذا النظام المادّي ليس أبديّاً، بل (كلّ يجري لأجل مسمّىً).
ثمّ يضيف بعد ذلك: إنّ هذه الحركات والتغيّرات في الأحوال ليست بدون حساب وكتاب، وبدون فائدة ونتيجة، بل (يدبّر الأمر يفصل الآيات لعلّكم بلقاء ربّكم توقنون).
وتعقيباً للآيات السابقة التي نقلت الإنسان إلى السّماء لتريه الآيات الإلهيّة هناك، تنقله الآية الثانية من آيات التوحيد إلى كتاب الكون أي الأرض والجبال والأنهار وأنواع الثمار وشروق الشمس وغروبها، حتّى يتفكّر في محلّ إستقراره في البداية ماذا كان؟ وكيف أصبح الآن بهذه الصورة؟
﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ استيناف أي وأنتم ترون السموات كذلك أو صفة لعمد ويصدق بأن لا عمد أصلا وروي فثم عمد ولكن لا ترون ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ بالتدبير ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ ذللهما لمنافع خلقه ﴿كُلٌّ﴾ منهما ﴿يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ إلى وقت مضروب هو يوم القيامة ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾ أمر ملكوته على مقتضى حكمته ﴿يُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ ينزلها مفصلا أو يبين دلائل وحدانيته ﴿لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ لكي تتأملوا فتعلموا أن من قدر على هذه الأمور قادر على البعث.