التّفسير
المؤمنون والأحزاب!
أشارت هذه الآية إلى ردّ الفعل المتفاوت للناس في مقابل نزول الآيات القرآنية، فالأفراد الذين يبحثون عن الحقيقة يفرحون بما أُنزل على الرّسول، بينما المعاندون يخالفون ذلك.
يقول تعالى أوّلا: (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما اُنزل إليك).
إنّ الوصف بـ(آتيناهم الكتاب) إشارة إلى اليهود والنصارى وأمثالهم ممّن لهم كتاب سماوي وقد ذكرهم القرآن في مواطن كثيرة، فكان الأشخاص الطالبون للحقّ من اليهود والنصارى وأمثالهم يفرحون عند نزول الآيات على الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّهم كانوا من جهة يرونها مطابقة لما في أيديهم من العلامات، ومن جهة أُخرى كان سبباً لحريتهم ونجاتهم من شرّ الخرافات ومن علماء اليهود والمسيحيّة الذين كانوا يستعبدونهم، وكانوا محرومين من حرية الفكر والتكامل الإنساني.
وأمّا ما قاله بعض المفسّرين الكبار من أنّ المقصود من (الذين آتيناهم الكتاب) هم أصحاب النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعيد جدّاً، لأنّ هذا الوصف ليس معهوداً بالنسبة للمسلمين، بالإضافة إلى ذلك فإنّها غير موافقة مع جملة (بما أُنزل إليك)(1).
وبما أنّ سورة الرعد مكّية فهي غير منافية لما قلناه آنفاً، مع أنّ المركز الأصلي لليهود في الجزيرة العربية كان المدينة وخيبر، والمركز الأصلي للمسيحيين هو نجران وأمثالها، ولكنّهم كانوا يتردّدون على مكّة ويعكسون أفكارهم ومعتقداتهم فيها، ولهذا السبب كان أهل مكّة يعرفون علامات آخر نبي مرسل وكانوا ينتظرونه (قصّة ورقة بن نوفل وأمثالها معروفة).
وهناك شواهد لهذا الموضوع في آيات أُخرى من القرآن الكريم والتي كان يفرح المؤمنين من أهل الكتاب عند نزول الآيات على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمثلا الآية (52) من سورة القصص تقول: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون).
ثمّ تضيف الآية (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) المقصود من هذه المجموعة هي نفس جماعة اليهود والنصارى الذين غلبهم التعصّب الطائفي وأمثاله، ولذلك لم يعبّر القرآن الكريم عنهم بأهل الكتاب، لأنّهم لم يتّبعوا كتبهم السّماوية.
بل كانوا في الحقيقة أحزاباً وكتلا تابعين لخطّهم الحزبي، وهذه المجموعة كانت تنكر كلّ ما خالف ميلهم ولم يطابق أهواءهم.
ويحتمل أيضاً أنّ كلمة "الأحزاب" إشارة إلى المشركين، لأنّ سورة الأحزاب ذكرتهم بهذا التعبير، وهؤلاء في الحقيقة ليس لهم دين ولا مذهب بل كانوا على شكل أحزاب وكتل متفرّقة اتّحدوا في مخالفتهم للقرآن والإسلام.
ونقل العلاّمة الطبرسي وبعض آخر من المفسّرين الكبار عن ابن عبّاس، أنّ هذه الآية إشارة إلى المشركين الذين كانوا يخالفون وصف الله بالرحمن، وأهل الكتاب - خصوصاً اليهود - يفرحون بهذا الوصف "الرحمان" في الآيات القرآنية، ومشركي مكّة كانوا يسخرون منه بسبب عدم معرفتهم به.
وفي آخر الآية يأمر الله النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يعتني بهذا وذاك من المخالفين، بل يدعوه إلى الثبات على الخطّ الأصيل والصراط المستقيم حيث يقول تعالى: (قل إنّما اُمرت أن أعبد الله ولا اُشرك به إليه أدعوا وإليه مآب) وتلك دعوة للموحّدين الصادقين والمؤمنين الرساليين أن يسلّموا أمام الأوامر الإلهيّة، فالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان خاضعاً لكلّ ما اُنزل عليه، فلا يأخذ ما كان يوافق ميله ويترك غيره.
بحث
الإيمان والإئتلاف الحزبي:
رأينا في الآية كيف أنّ الله سبحانه وتعالى عبّر عن المؤمنين من اليهود والنصارى بأهل الكتاب، وعبّر عن أُولئك التابعين للعصبية والأهواء بالأحزاب، وهذا غير منحصر في تاريخ صدر الإسلام، بل إنّ هذا التفاوت موجود دائماً بين المؤمنين الحقيقيين والذين يدّعون الإيمان، فالمؤمنون الحقيقيون يقولون بالتسليم المطلق لكلّ الأوامر الإلهيّة، ولا يقولون بالتبعيض، ويجعلون ميلهم تحت ذاك الشعاع، فهم أهل لأن يسمّيهم القرآن أهل الكتاب والإيمان.
بينما أُولئك فهم مصداق الآية (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) ومعناه كلّ ما طابق خطّهم الفكري وميلهم الشخصي وأهواءهم يقبلونه، وكلّ ما خالف منافعهم الشخصيّة ينكرونه، فهؤلاء ليسوا بمسلمين ولا مؤمنين، بل أحزاب وكتل يبحثون عن مصالحهم في الدين، ولذلك كانوا يقولون بالتبعيض في التعاليم الإسلامية.
﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي من أسلم منهم ﴿يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ لموافقته كتابهم أو المراد المسلمون ﴿وَمِنَ الأَحْزَابِ﴾ الذين تحزبوا عليك بالعداوة من المشركين وكفرة أهل الكتاب ﴿مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾ وهو ما خالف أحكامهم ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ﴾ بما أنزل إلي ﴿أَنْ﴾ بأن ﴿أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو﴾ لا إلى غيره ﴿وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ مرجعي.