التّفسير
البشرية فانية ووجه الله باق:
بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث مع منكري رسالة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد تابعت هذه الآيات كذلك نفس البحث.
والهدف هو دعوتهم إلى التفكّر، ثمّ الإصلاح عن طريق الإنذار والإستدلال وغيرها.
يقول تعالى أوّلا: (أو لم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) من الواضح أنّ المقصود من الأرض هنا هم أهل الأرض، يعني أنّ هؤلاء لا ينظرون إلى هذا الواقع من أنّ الأقوام والحضارات والحكومات في حال الزوال والإبادة، الأقوام الذين كانوا أكثر منهم قوّة وآثاراً قد اُلحدوا تحت الثرى حتّى العلماء والعظماء - الذين هم قوام الأرض - التحقوا بالرفيق الأعلى.
فهل أنّ هذا القانون العامّ للحياة الذي يسري على جميع الأفراد وكلّ المجتمع البشري صغيره وكبيره، غير كاف لإيقاظهم وتفهيمهم أنّ هذه الأيّام القلائل للحياة ليست أبدية؟!
ثمّ يضيف: (والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب) ولذلك فإنّ قانون الفناء مكتوب على جبين كلّ الأفراد والاُمم من جهة، ومن جهة أُخرى لا يستطيع أحد أن يغيّر هذا الحكم ولا الأحكام الأُخرى، ومن جهة ثالثة أنّ حساب العباد سريع جدّاً، وبهذا الترتيب يكون جزاؤه قاطعاً.
وقد جاءت في روايات متعدّدة في تفسير "البرهان" و "نور الثقلين" وسائر منابع الحديث، إنّ تفسير الآية أعلاه هو "فقدان العلماء" لأنّ فقدهم نقصان الأرض ونقص المجتمع الإنساني.
ونقل المفسّر الكبير الطبرسي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قال: "ننقصها بذهاب علمائها، وفقهائها وخيارها"(1).
ونقرأ في حديث آخر أنّ "عبدالله بن عمر" تلا هذه الآية حين إستشهد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) (إنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها).
ثمّ قال: "ياأمير المؤمنين، لقد كنت الطرف الأكبر في العلم، اليوم نقص علم الإسلام ومضى ركن الإيمان".
إنّ للآية - بدون شكّ - معنىً واسعاً كما قلنا، وهي تشمل كلّ نقص في ذهاب الأفراد والمجتمع وأهل الأرض، وإنذار لكلّ الناس، الصالح منهم والطالح، حتّى العلماء الذين يشكّلون أركان المجتمع البشري يكون موت أحدهم أحياناً نقصاناً للدنيا، فهذا إنذار بليغ وساطع.
وأمّا ما إحتمله بعض المفسّرين من أنّ المقصود بالنقصان هو نقض أرض الكفّار وإضافتها إلى أرض المسلمين، فلا نراه صحيحاً إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أنّ السورة مكّية، لأنّ الفتوحات في ذلك الوقت لم تكن موجودة حتّى يراها الكفّار أو يشير إليها القرآن الكريم.
وأمّا ما قاله بعض المفسّرين الذين غرقوا في العلوم الطبيعيّة، من أنّ الآية أعلاه تشير إلى نقص الأرض من ناحية القطبين واستواؤها في خطّ الإستواء، فهذا كذلك نراه بعيداً عن الواقع، لأنّ القرآن الكريم ليس في مقام الإشارة إلى ذلك.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ نقصد أرض الشرك أو الأعم ﴿نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ بالفتوح على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو بموت العلماء كما روي أو بإذهاب أهلها ﴿وَاللّهُ يَحْكُمُ﴾ في خلقه ﴿لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ لا راد له ﴿وهو سريع الحساب﴾ للعباد.