التّفسير
الأيّام الحسّاسة في الحياة:
كان الحديث في الآيات السابقة عن القرآن الكريم وآثاره الروحية، وتتابع الآية الأُولى من هذه المجموعة نفس الموضوع، لكن في بُعد خاص وهو أنّ دعوة الأنبياء وكتبهم السّماوية نزلت بلسان أوّل قوم بُعِثوا إليهم.
يقول تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه).
لأنّ الأنبياء يرتبطون في الدرجة الأُولى مع قومهم، وأوّل نور الوحي يشعّ من بينهم، وأوّل الصحابة والأنصار يُنتخبون منهم، لذلك فإنّ الرّسول يجب أن يحدّثهم بلغتهم وبلسانهم (ليُبيّن لهم).
وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تشير إلى أنّ دعوة الأنبياء لا تنعكس في قلوب أتباعهم باُسلوب مرموز وغير معروف، بل كانت توضّح لهم من خلال التبيين والتعليم والتربية وبلسانهم الرائج.
ثمّ يضيف القرآن الكريم بعد أن بيّن لهم الدعوة الإلهيّة (فيضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء) فليست الهداية والضلال من عمل الأنبياء، بل عملهم الإبلاغ والتبيين، الله سبحانه وتعالى هو الموجّه والهادي الحقيقي لعباده.
ولكي لا يتصوّر أحد أنّ هذا القول بمعنى الجبر وسلب الحريّات، فيضيف القرآن مباشرة (وهو العزيز الحكيم) وبمقتضى عزّته وقدرته فانّه قادر على كلّ شيء، ولا أحد له قدرة على المقاومة في مقابل إرادته تعالى، ولكن بمقتضى حكمته لا يهدي ولا يضلّ أحداً بدون سبب ودليل، بل الخطوة الأُولى تبدأ من قبل العباد وبكامل الحرية في السير إلى الله، ثمّ يشعّ نور الهداية وفيض الحقّ في قلوبهم، كما في سورة العنكبوت الآية (69) (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا).
وكذلك حال الذين تاهوا في وادي الضلالة وحُرِموا من فيض الهداية، فهو نتيجة لتعصّبهم الأعمى ومحاربتهم للحقّ، وغرقهم في الشّهوات، وتلوّثهم بالظلم والجور.
كما يقول تعالى: (كذلك يضلّ الله من هو مسرف مرتاب)، (1) ويقول أيضاً: (وما يضلّ به إلاّ الفاسقين)، (2) وقوله تعالى: (ويضلّ الله الظالمين)(3).
وعلى هذا النحو فإنّ محور الهداية والضلال في أيدي الناس أنفسهم.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ بلغتهم ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ ما أتى به فيفهموه ويفهموه غيرهم ﴿فَيُضِلُّ اللّهُ﴾ يخذل ﴿مَن يَشَاء﴾ ممن أعرض عنه ﴿وَيَهْدِي﴾ بلطفه ﴿مَن يَشَاء﴾ ممن تدبر وتعقل ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ الغالب المدبر بحكمته.