ثمّ يقول تعالى: (ما تسبق من أُمّة أجلها وما يستأخرون).
فقد سرت سنّة الباري جل شأنه بأن يعطي المدّة الكافية لرجوع المضللين إِلى بارئهم، من خلال ابتلائهم بالشدائد الصعبة تارةً، وبفيوضات رحمة الرخاء تارةً أُخرى، فمن لا تنفعه البشارة يأتيه الإِنذار وهكذا، كل ذلك إِتماماً للحجة عليهم.
صحيح أنّ المصلحة الموجبة للتربية الربانية تقتضي (بعلم ربّ الأرباب) أن يمهل ولكنّه سبحانه لا يهمل، وعاجلا أم آجلاً سينال كلٌّ نصيبه بما كسبت يداه.
من الآيتين الآخيرتين، تتّضح لنا فلسفة تكرار آيات القرآن لذكر تأريخ الأُمم السابقة.
أفلا تكفينا قصص السابقين عبرة لإصلاح أنفسنا والرجوع إِلى اللّه تعالى؟ بل كيف نسترخي بالقعود حتى يقدّر علينا ما كتب على الذين ضلوا وظلموا من قبلنا؟ اذن وعلينا الإِعتبار، وإِلاّ فسنكون عبرة لمن سيأتي بعدنا.
ملاحظة
الغفلة وطول الأمل:
ممّا لا شك فيه أن الأمل بمثابة العامل المحرك لعجلة حياة الإنسان، فلو ارتفع الأمل يوماً من قلوب الناس لارتبكت مسيرة الحياة ولا تجد إّلا القليل ممن يجد في نفسه دافعاً لمواجهة صراع الحياة معه، والحديث النبوي الشريف: "الأمل رحمة لأُمتي، ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجراً"(4)يشير لهذه الحقيقة.
وإِذا ما تجاوز الأمل حده المعقول فإِنّه سيتحول إِلى (طول أمل) وهو ما ينذر بالإِنحراف والهلاك، ومثله كمثل ماء المطر الذي يمثل عامل الحياة الفياض للأرض والنبات والحيوان، فلو زاد عن حدّ الحاجة إِليه، أصبح عاملا للغرق والهلاك.
وهذا الأمل القاتل هو أساس الجهل باللّه وعدم معرفة الحق والإبتعاد عن الحقيقة، ويؤدي الى تقوقع الانسان في دائرته الفردية بما ينسجه الخيال الواسع ويبتعد عن هدف وجود الإنسان على الأرض والمصير الذي يصبو إليه.
ويحدثنا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن هذا المضمون بقوله "يا أيّها الناس، إِنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباعُ الهوى وطول الأمل; فأمّا اتّباع الهوى فيصدُّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فَيُنْسي الآخرة"(5).
حقاً، كم هم أولئك الذين امتازوا بالملكات الفائقة والكفاءات اللائقة، ولكنّهم سقطوا في شباك فخ طول الأمل فتحولوا إَلى موجودات ضعيفة، بل وممسوخة!! وأصبحوا لا يستطيعون تقديم شي لمجتمعهم، بل ضيّعوا حتى ما ينفع أنفسهم وأُثقِلُوا عمّا يسمون به إِلى التكامل.
وهذه الصورة نتلمس ملامحها بجلاء في دعاء كميل: "وحبسني عن نفعي بُعد أملي".
بديهي أنّ الأمل الذي يتجاوز الحد المعقول، يجعل الإِنسان عرضة للإِنهماك والعجز والإِضطراب، ويُصَوِّر لصاحبه أنّ هذه الحال ستوصله إِلى السعادة والرفاه، وما يدري أنّه يخطو صوب جرف الشقاء والنكد.
وغالباً ما تطوى صفحات هؤلاء بالدمعة الجارية والحسرة لما آل إِليه المآل ليكونوا عبرة لكل ذي عين بصيرة وأُذن سميعة.
﴿مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ يتأخرون عنه والتذكير باعتبار المعنى.