لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير حفظ القرآن من التحريف: بعد أن استعرضت الآيات السابقة تحجج الكفار واستهزاءهم بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والقرآن، تأتي هذه الآية المباركة لتواسي قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة ولتطمئن قلوب المؤمنين المخلصين من جهة أُخرى، من خلال طرح مسألة حيوية ذات أهمية بالغة لحياة الرسالة، ألا وهي... حفظ القرآن من أيادي التلاعب والتحريف (إِنا نحن نزلنا الذكر وإِنا له لحافظون)... فبناء هذا القرآن مستحكم وشمس وجوده لا يغطيها غبار الضلال، ومصباح هديه أبدي الإِنارة، ولو اتحد أعتى جبابرة التاريخ وطغاته وحكامه الظلمة، محفوفين بعلماء السوء، ومزودين بأقوى الجيوش عدّة وعتاداً، على أن يخمدوا نور القرآن، فلن يستطيعوا، لأنّ الحكيم الجبار سبحانه تعهد بحفظه وصيانته... وقد اختلف المفسّرون في دلالة (حفظ القرآن) في هذه الآية المباركة: 1 - قال بعضهم: الحفظ من التحريف والتغيير، والزيادة والنقصان. 2 - وقال البعض الآخر: حفظ القرآن من الضياع والفناء إِلى يوم قيام الساعة. 3 - وقال غيرهم: حفظه أمام المعتقدات المضلة المخالفة له. بما أنّه لا يوجد أي تضاد بين هذه التفاسير وتدخل ضمن المفهوم العام لعبارة (إِنّا له لحافظون) فلا داعي لحصر مصاديقها في بُعد واحد، خصوصاً وإِن "لحافظون" ذُكرت بصيغة مطلقة وليس هناك ما يخصصها. والصحيح، وفقاً لظاهر الآية المذكورة، أنّ اللّه تعالى وعد بحفظ القرآن من جميع النواحي: من التحريف، من التلف والضياع، ومن سفسطات الأعداء المزاجية ووساوسهم الشيطانية. أمّا ما احتمله بعض قدماء المفسّرين بأنّه الحفظ على شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)باعتبار أن ضمير "له" في الآية يعود إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدلالة إِطلاق لفظة "الذكر" على شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض الآيات(1)، فهو احتمال يتعارض مع سياق الآيات السابقة التي عنت ب- "الذكر" "القرآن"، بالإِضافة إِلى إِشارة الآية المقبلة لهذا المعنى. بحث في عدم تحريف القرآن: المشهور بين أوساط جلّ علماء المسلمين شيعة وسنة، أنّ القرآن لم يتعرض لأي نوع من التحريف، وأن الذي بين أيدينا هو عين القرآن الذي نزل على صدر الحبيب محّمد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فلا زيادة أو نقصان، حتى ولو بكلمة واحدة، أو قل بحرف واحد. ومن جملة مَنْ صرح بهذا من العلماء الأعلام الشيعة (من المتقدمين والمتأخرين) تغمّدهم اللّه برحمته. 1 - الشّيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (460 هـ ق)، وله بحث صريح وقاطع بهذا الشأن في أوّل تفسيره المعروف ب- (التبيان). 2 - الشريف المرتضى، ويعتبر من كبار علماء الإِمامية في القرن الرّابع الهجري. 3 - الشّيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه المعروف برئيس المحدثين، حيث يقول في بيان عقائد الإِمامية: (إَن اعتقادنا بالقرآن أنّه سالم من أي تحريف). 4 - المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي، وله في مقدمة تفسيره بحث مفصل بهذا الشأن. 5 - المرحوم الشّيخ محمد حسين كاشف الغطاء، من كبار العلماء المتأخرين. 6 - المرحوم المحقق اليزدي، وقد نقل في كتابه (العروة الوثقى) مسألة عدم تحريف القرآن عن جمهور مجتهدي الشيعة. 7 - بالإِضافة إِلى جمع من العلماء الآخرين، أمثال: الشّيخ المفيد، الشّيخ البهائي، القاضي نور اللّه مع سائر محققي الشيعة. وقد نحى هذا المنحى علماء ومحققوا أهل السنة. وقد نُقل عن بعض مُحدِّثي الشيعة وبعض أهل السنة، اعتقادهم بوقوع التحريف في القرآن. إِلاّ أن كبار علماء الفريقين بأدلتهم القاطعة قد أبطلوا زعم هؤلاء وأدخلوه في حيز النسيان. وأفاد العلاّمة الشريف المرتضى في جواب (المسائل الطرابلسيات) "إن صحة نقل القرآن واضحة وبيّنة كمعرفتنا لعواصم العالم والحوادث المهمّة في التأريخ والكتب الشهيرة" فهل هناك مَنْ يشك في وجود مدن كمكّة والمدينة أو لندن وباريس وإن لم يزرها؟!! أو هل هناك مَن ينكر وقوع الهجوم المغولي على الشرق، الثورة الفرنسية، الحرب العالمية الأُولى أو الثّانية؟!! فإِنّ لم يكن هناك من يشك أو ينكر، بسبب تواتر ذكر وجودها، فكذلك آيات القرآن الكريم، وهذا ما سيأتي بيانه إِن شاء اللّه. وإِذا كان بعض المغرضين قد نسبوا للشيعة اعتقادهم بتحريف القرآن، فغايتهم إِشعال فتيل التفرقة والفتنة بين الشيعة والسنة، وقد فندت كتب كبار علماء الشيعة هذه الأباطيل الفاقدة لأي دليل منطقي. ولا نستغرب من الفخر الرازي قوله في ذيل الآية مورد البحث (إنّ الآية: (إِنّا نحن نزلنا الذكر وإِنّا له لحافظون) دليل على بطلان قول الشيعة في حصول التغيير والزيادة والنقصان في القرآن)، ممّا نعلمه عن هذا الرجل من حساسية وتعصب تجاه الشيعة. وهنا... لابدّ من كلمة: إِن كان يقصد بالشيعة كبار علمائهم ومحققيهم، فليس هناك مَنْ يعتقد بذلك. وإن كان يقصد بوجود قول ضعيف بهذا الشأن بين أوساط الشيعة، فإِنَّ نظيره موجود في أوساط السنة أيضاً، وهو ما لم يُعتَن به من قبل الطرفين. وقد تطرق لذلك بوضوح المحقق الشّيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) بقوله: لا ريب أنّه (أيْ القرآن) محفوظ من النقصان بحفظ المَلك الديان، كما دل عليه صريح القرآن، وإِجماع العلماء في كل زمان، ولا عبرة بنادر(2). إِنّ التأريخ الإِسلامي مزدحم بالتهم الباطلة المتغذية من ثدي العصبية المقيتة، مع علمنا القاطع بأنّ أعداء الإِسلام يقفون وراء حياكة ونشر هذه التهم لإِيقاع البغضاء بين أبناء الدين الواحد، وأنّ غاية ما يسعون إليه أن يروا المسلمين أُمّةً مفككة غير قادرة على القيام بمهامها الوحدوية التوحيدية. ترى كاتباً معروفاً (من أهل الحجاز) في عرض ذمّه للشيعة من خلال كتابه (الصراع) يقول: (والشيعة هم أبداً أعداء المساجد)(3). والحال لو أجرينا إحصاءاً لعدد المساجد في شوارع وأسواق وأزقة المدن الشيعية لأخذ منّا الوقت الطويل لكثرتها، لدرجة أنّ بعضاً من الشيعة بات يُشكِل على كثرة المساجد في المنطقة الواحدة ويرى لو يلتفت المحسنون لدور الأيتام والمستشفيات الخيرية وما شاكلها، بدلا من بناية المساجد لكفاية الموجود ومع هذا ترى كاتباً معروفاً يتحدث بصراحة عن أمر يدعو إلى الضحك. وعليه فلا ينبغي الإِستغراب لما افتراه الفخر الرازي. أدلة عدم تحريف القرآن: 1 - أدلة عدم تحريف القرآن كثيرة - فبالإضافة الى الآية محل البحث وآيات اخُر - كيفية تعامل الناس مع هذا الكتاب السماوي العظيم عبّر التأريخ. وقبل البداء ينبغي التنويه بأنّ من احتمل التحريف في القرآن، إِنّما أراد بذلك حصول النقص فيه، ولم نر مَنْ احتمل الزيادة في القرآن. ونظرة فاحصة إِلى تاريخ حياة المسلمين نرى من خلالها أنّهم كانوا يعايشون القرآن في كافة مرافق حياتهم، فهو القانون والدستور الحاكم، ونظام الدولة، وهو الكتاب المقدس السماوي ورمز العبادة... وبعد هذا كله هل يحتمل أن تطرأ عليه الزيادة أو النقصان؟!! يحدثنا التأريخ بأنّ القرآن ما كان ليفارق الإِنسان المسلم في: صلاته، المسجد، البيت، ميدان الحرب عند مواجهة الأعداء، بل إِنّ المسلمين كانوا يجعلون تعليم القرآن مهوراً للنساء. فكان للقرآن الحضور الفاعل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون المسلمين، حتى أن الطفل ينمو على هديه. ومرّة أُخرى نقول: أوَ يعقل أن يصاب هذا الكتاب السماوي المقدس بسهام التحريف والتغيير وهو محفوظ في قلوب وسلوك المسلمين على مرّ التأريخ؟!! لقد تمّ جمع القرآن - كما ذكرنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير - في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، واهتمّ به المسلمون الأوائل أقصى درجات الإِهتمام، في مجال تعلم أحكامه وحفظه، لدرجة أصبحت فيها مكانة الفرد الإِجتماعية تقاس بقدر حفظه من سور القرآن الكريم، حتى أصبح عدد حفاظ القرآن من الكثرة بحيث أنّه في إِحدى المعارك قتل فيها أربعة آلاف منهم(4). وكذلك الحال في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما استشهد سبعون رجلا من الصحابة الذين حفظوا القرآن في معركة بئر معونة - وهي إحدى المناطق المجاورة للمدينة ـ(5). من هذين المثلين (وأمثالهما كثير) يتّضح لنا أن حفظة وقراء ومعلمي القرآن الكريم من الكثيرة بحيث يستشهد منهم في معركة واحدة ذلك العدد الضخم. وهذا طبيعي جداً إذا ما نظرنا إِلى طريقة تعامل المسلمين مع القرآن، باعتباره القانون الحاكم النافذ، والكتاب المقدس الذي لا يوجد سواه. لم يكن القرآن الكريم كتاباً مهملا في زوايا البيوت والمساجد يعلوه غبار النسيان حتى تسنح الفرصة لمن يريد أن يزيد فيه أو ينقص، بل إنّ مسألة حفظه كانت وما زالت عبادة عظيمة وسنّة متبعة تمتد جذورها في عمق التاريخ الإسلامي. وبعد أن ظهرت الطباعة كان القرآن الكريم أكثر الكتب من حيث الطبع والإنتشار بين صفوف المسلمين في كافة بلدانهم، ولا تخلو مدينة إسلامية من حفاظ للقرآن. والأمثلة أكثر من أن تقال، ففي البلدان الإسلامية هناك مدارس خاصة لقراءة وحفظ القرآن وذكر أحد المطلعين: أنّه يوجد في بعض بلاد الإسلامية ما يقرب من مليون ونصف المليون حافظ للقرآن. وبناءً على ما ذكره فريد وجدي في كتابه (دائرة المعارف): إِن من شروط امتحان القبول في كلية الأزهر في مصر، هو حفظ القرآن الكريم كاملا ودرجة النجاح في ذلك (20) من (40) كحد أدنى. خلاصة القول: إنّ حفظ القرآن منذ عصر ظهور الإِسلام أصبح سنّة حية في حياة المسلمين، من خلال ما أمر وأكّد عليه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (وهو ما تعضده الرّوايات الكثيرة)، وإِلى هنا نعاود طرح السؤال: هل هناك مجال لاحتمال وجود التحريف في القرآن؟!! 2 - بالإضافة إلى ما تقدم تواجهنا مسألة (كتّاب الوحي) وهم الأشخاص الذين أوكل إِليهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهمّة تسجيل الآيات القرآنية بعد نزولها، ويذكر أن عددهم كان بين 14 - 43 رجلا. يقول أبو عبد اللّه الزنجاني في كتابه القّيم (تأريخ القرآن): (كان للنبي كتّاب يكتبون الوحي وهم ثلاثة وأربعون، أشهرهم الخلفاء الأربعة، وكان ألزمهم للنّبي زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)) فكيف لكتاب له كل هؤلاء الكتّاب أن تمتد إليه يد التحريف؟!! 3 - دعوة الأئمّة المعصومين عليهم السلام للعمل بالقرآن الموجود بين أيدينا. ولو تفحصنا كلامهم عليهم السلام لوجدنا أنّهم قد دعوا الناس لتلاوة ودراسة القرآن والعمل على هديه منذ صدر الإسلام وعلى امتداد وجودهم المبارك بين الناس، وهذا دليل على أن الأيادي المفسدة ما استطاعت النيل من هذا الكتاب السماوي. وخطب الإِمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة خير شاهد ينطق بهذا الإِدعاء: فنقرأ في الخطبة (133): "وكتاب اللّه بين أظهركم، ناطق لا يعيا لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعز لا تهزم أعوانه". ويقول في الخطبة (176): "واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل...". ونطالع قوله (عليه السلام) في نفس الخطبة المذكورة: "وما جالس هذا القرآن أحدٌ إَلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى". ونتابع ذات الخطبة حتى نصل لقوله (عليه السلام): "وإِنّ اللّه سبحانه لم يعظْ أحداً بمثل هذا القرآن، فإِنه حبل اللّه المتين، وسببه الأمين". ونقرأ في الخطبة (198): "ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده،...، ومنهاجاً لا يضل نهجه،...، وفرقاناً لايخمد برهانه" وأمثال ذلك كثير في كلام علي والأئمّة(عليهم السلام). ولو فرضنا أنّ يد التحريف قد طالت كتاب السماء، فهل من الممكن أن يدعو إِليه الأئمّة عليهم السلام بهذه القوة؟ ويصفونه بأنّه: صراط هداية، وسيلة التفريق بين الحق والباطل، النّور الذي لا يطفأ أبداً، مصباح هداية لا يخبو، حبل اللّه المتين والعروة الوثقى. 4 - وإِذا ما سلمنا ب- (خاتمية) النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الدين الإِسلامي هو خاتم الأديان الإِلهية، وإِنّ رسالة القرآن باقية إِلى يوم القيامة. فهل يصدق أنّ اللّه سبحانه سوف لا يحفظ دليل دينه وحجّة نبيّه الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وهل يجتمع تحريف القرآن مع بقاء الإِسلام عبر آلاف السنين ودوامه حتى نهاية العالم؟!! 5 - وهناك دليل آخر على أصالة القرآن وحفظه من أية شائبة نتلمسه في روايات الثقلين المروية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق متعددة معتبرة. فقد روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "إِنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه وعترتي، ما إِن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً"(6). فهل يصح هذا التعبير عن كتاب تطاله يد التحريف؟!! 6 - بالإِضافة إِلى كل ذلك فالقرآن طُرح على المسلمين باعتباره الحد الفاصل المأمون الجانب في تمييز الأحاديث الصادقة من الكاذبة، وتشير كثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام إِلى أن صدق أو كذب أي حديث يتبيّن من خلال عرضه على القرآن، فما وافق القرآن فهو حق وما خالفه فهو باطل. فلو افترضنا أنّ تحريفاً قد طرأ على القرآن (ولو بصورة نقصان) فهل يمكن اعتباره فاصلا بين الحق والباطل، أو معياراً دقيقاً لتمييز الحديث الصحيح من السقيم؟!! روايات التّحريف: يستند القائلون بتحريف القرآن مرّة على روايات قد أُسيء فهمها نتيجة عدم الوصول لما كانت ترمز إِليه من معنى، وأُخرى على روايات ضعيفة السند ويمكن تقسيم روايات التحريف إِلى ثلاثة أقسام: 1 - الرّوايات القائلة: إِنّ عليّاً(عليه السلام) شرع بجمع القرآن بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعندما تمّ جمعه عرضه على جمع من الصحابة ممن تربعوا في مقام الخلافة فلم يقبلوه منه، فقال علي (عليه السلام): إِنّكم لن تروه بعد الآن أبداً. وبنظرة فاحصة إِلى تلك الرّوايات نصل إِلى أن القرآن الذي كان عند علي(عليه السلام) لا يختلف مع بقية النسخ من حيث المضمون، سوى اختلافه من حيث العرض والترتيب في ثلاثة أُمور: الأوّل: أن آياته وسوره كانت مرتبة حسب تأريخ النّزول. الثّاني: تثبيت سبب النّزول لكل آية وسورة. الثّالث: تضمن تفسير النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للآيات بالإِضافة إِلى ذكر الناسخ والمنسوخ. فالقرآن الذي جمعه أمير المؤمنين (عليه السلام) ليس إِلاّ عين القرآن الموجود سوى أنّه أضاف إِليه: (التّفسير) و(التأويل) و(سبب النّزول) و(تبيان الناسخ والمنسوخ) وما شابه ذلك. وبعبارة أُخرى، كان قرآناً مع تفسيره الأصيل. كما أنّه ورد في كتاب سُليم بن قيس: (إِنّ أمير المؤمنين عليه السلام لما رأى غدر الصحابة وقلّة وفائهم لزم بيته، وأقبل على القرآن، فلما جمعه كله، وكتابه بيده، وتأويله الناسخ والمنسوخ، بعث إِليه أن أخرج فبايع، فبعث إِليه إِني مشغول فقد آليت على نفسي لا أرتدي بردائي إِلا لصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه)(7). 2 - الرّوايات المشيرة إِلى "التحريف المعنوي" للقرآن. إنّ التحريف - كما نعلم - على ثلاثة ضروب: لفظي، معنوي، وعملي. فالتحريف اللفظي: هو تغيير ألفاظ وعبارات القرآن وحصول الزيادة والنقصان فيها. (وهذا ما نرفضه بشدة - وجميع محققي الإِسلام - وننكره إِنكاراً قاطعاً). والتحريف المعنوي: هو تفسير الآية خلافاً لمفهومها ومعناها الحقيقي. أمّا التحريف العملي: فهو العمل على خلاف المقتضى. ففي تفسير علي بن إِبراهيم عن أبي ذر(رضي الله عنه) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال رسول اللّه صلّى عليه وآله وسلّم: "ترد عليّ أُمتي يوم القيامة على خمس رايات، فراية مع عجل هذه الأمة، فأسألهم: ماذا فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فحرفناه ونبذناه وراء ظهورنا..."(8). وواضح أن التحريف هنا يقصد به التحريف المعنوي للقرآن ونبذه وراء الظهور. 3 - الرّوايات المختلقة: فقد سعى أعداء الدين والمنحرفون عن الصراط المستقيم، وتبعهم الجهلة، في اختلاق بعض الرّوايات للحطّ من شرف القرآن وقدسيته، ومنها الرّوايات التي رواها أحمد بن محمّد بن السياري والبالغة (188) رواية(9)، وقد استدل العلاّمة الشّيخ النّوري بكثير من هذه الرّوايات في كتابه (فصل الخطاب). والسياري هذا مطعون عند كثير من علماء (علم الرجال) ويقولون عليه كان: فاسد المذهب، لا يعتمد عليه، وضعيف الحديث. وعلى قول بعضهم: إنّه من أهل الغلو، منحرف، معروف بالتقول بالتناسخ، وكذاب، ويقول عنه الكشي (صاحب كتاب الرجال المعروف): إِنّ الإِمام الجواد(عليه السلام) وصف ادعاءات السياري في رسالته بأنّها باطلة. مع أنّ روايات التحريف غير مقتصرة على السياري، إِلاّ أنّ أكثرها وأهمها تعود إِليه. وبين هذه الرّوايات المزيفة ما تضحك الثكلى، وينكرها كل ذي لب لبيب، وعلى سبيل المثال ما جاء في إِحداها بخصوص الآية الثّالثة من سورة النساء (وإِن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) أنّه: قد سقط بين شرطها وجزاءها ثلث القرآن!!!!!! وقد ذكرنا في تفسير الآية المذكورة، أن الشرط والجزاء في الآية مرتبطان ارتباطاً تاماً، ولم يسقط من بينهما ولو كلمة واحدة. أضف إِلى ذلك، أن ثلث القرآن ما يعادل أربعة عشر جزء منه تقريباً، فكيف يدعى هذا المدعى مع ما للقرآن من كتّاب وحي وحفاظ وقراء منذ عهد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهل يعقل أن يحصل ذلك دون أن يلتفت إِليه أحد؟!! وكأنّ هؤلاء لم يعيشوا ويعايشوا التاريخ بواقعيته وجلاءه، ألم يثبت التأريخ بأنّ الشيء الأساسي في حياة المسلمين هو القرآن؟ أوَلَمْ يكن القرآن يتلى في آناء الليل وأطراف النهار في جميع البيوت والمساجد؟ إِذن... فكيف يحتمل إِسقاط كلمة واحدة دون أن يلتفت إِليه أحد، فضلا عن كون السقط ثلث القرآن؟!! لا يسعنا إِلاّ أن نقول: إِنّ كذبة بهذه المواصفات لدليل جلي على سذاجة واضعي مثل هذه الأحاديث. وقد اعتمد الكثير من المتذرعين في إِثبات تحريف القرآن على كتاب (فصل الخطاب) المشار إِليه آنفاً. ولابدّ من الإِشارة إِلى غرض وغاية هذا الكتاب من خلال ما كتبه تلميذ المؤلف العلاّمة الشيخ آغا بزرك الطهراني في الجزء الأوّل من كتاب (مستدرك الوسائل)، حيث يذكر أنّه سمع من استاذه مراراً: إِنّ ما في كتاب فصل الخطاب لا يمثل عقيدتي الشخصية، إِنّما ألفته للبحث والمناقشة، وأشرت فيه إِلى عقيدتي في عدم تحريف القرآن دون أنْ أُصرح، وكان من الأفضل أن أسمّيه (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب). ثمّ يقول المحدث الطهراني: هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه، وأمّا عمله فقد رأيناه يقيم وزناً لما ورد في مضامين الأخبار، ويراها أخبار آحاد لابدّ أن تُضرب عرض الحائط، ولا أحد يستطيع نسبة التحريف إِلى أستاذنا إِلاّ مَنْ هو غير عارف بعقيدته ومرامه. وأخيراً... فالأيادي المغلولة لا يسعها في هذا المجال إِلاّ أن تبذل كل جهودها للنيل من أصالة وعظمة وقدسية كتاب السماء عند المسلمين عن طريق بث الخرافات والأباطيل. وطالعتنا الصحف من مدّة ليست بالبعيدة بأنّ أياد إِسرائيلية صهيونية قامت بطبع نسخة جديدة للقرآن غيروا فيها كثيراً من الآيات القرآنية، وكما هو معهود فقد انتبه علماء المسلمين بسرعة لهذه الدسيسة الخبيثة وجمعوا تلك النسخ، فباءت محاولتهم بالفشل والخذلان. وفات هؤلاء الأعداء من أصحاب القلوب الداكنة، أن نقطة واحدة لو غُيِّرَتْ في القرآن فسيعيدها إِلى نصابها المفسّرون والحفاظ وقراء هذا الكتاب العظيم (يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إِلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون)(10). ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ القرآن وأكد لأنه رد لإنكارهم ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ عند أهل الذكر واحدا بعد واحد إلى القائم أو في اللوح وقيل الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم).