لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ويضيف في الآية التالية: (وحفظناها من كل شيطان رجيم إِلاّ من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين). الآية المذكورة، من الآيات التي أُشبعت شرحاً وتفسيراً من قبل المفسّرين، وكلٌ منهم قد نحى منحىً خاصاً في فهم معناها. وقد ورد ذات المضمون في سورة الصافات (الآيتان 6 و7) وكذلك في سورة الجن الآية (رقم 9). وربّما ارتسمت في أذهان البعض أسئلةً لم يُسْعَفوا بالإِجابة عنها، فكان لزاماً علينا في باديء الأمر أن نلقي نظرة إِلى آراء كبار المفسّرين فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده، ومن ثمّ نعرج إِلى ما نراه راجحاً من هذه الآراء: 1 - بعض المفسّرين ومنهم صاحب تفسير (في ظلال القرآن) قد اكتفوا بالتّفسير الإِجمالي ولم يغوصوا إِلى كثير من التفاصيل، ولم يعيروا أهميةً لكثير من المسائل على اعتبار أنّها حقائق فوق البشر ولا يمكننا إِدراكها، وما علينا إِلاّ أن نهتم بالآيات التي ترتب الآثار على حياتنا العملية وتنظم لنا السلوك والتوجه الى الحق. فكتب يقول: وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟... كل هذا غيب من غيب اللّه لا سبيل لنا إِليه إِلاّ من خلال النصوص، ولا جدوى في الخوض فيه، لأنّه لا يزيد شيئاً في العقيدة ولا يثمر إِلاّ انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة، ثمّ لا يضيف إِليه إِدراكاً جديداً لحقيقة جديدة(3). وينبغي التنويه هنا إِلى أنّ القرآن كتابٌ سماوي جاء لتوجيه الإِنسان إِلى الحق، وهو كتابُ حياة وتربية، فإِن كان فيه ما لا يخص الحياة الإِنسانية فمن الأُولى أن لا يطرح أصلا، وهذا خلاف التخطيط والمنهج الرّباني، وكلُّ ما فيه دروس لنا ومنهجٌ قويم للحياة. والتسليم بوجود حقائق غامضة في القرآن أمرٌ مرفوض... أوَ ليس القرآن كتاب نور، وكتاباً مبيناً؟!! أوَ لم ينزل كي يفهمه الناس ويسيروا بهديه؟!! فكيف إِذن... لا يهمنا فهم بعض آياته؟!! وبكلمة: فإنّ هذا التّفسير مرفوض. 2 - يصرّ جمع لا بأس به من المفسّرين (وخصوصاً القدماء منهم) على الوقوف عند المعنى الظاهري لهذه الآيات. فالسماء هي هذه السماء، والشهاب هو ما نراه ونسميه شهاباً (أي الكرات الصغيرة التي تسبح في الفضاء، وتخترق بين الحين والآخر جاذبية الأرض فتنطلق نحوها بسرعة فتحترق نتيجةً لا حتكاكها بالهواء المسبب لزيادة حرارتها). والشيطان هو ذلك الموجود الخبيث المتمرد الذي يحاول أن يخترق أعماق السماوات ليطلع على أخبار ذلك العالم ليوصل تلك الأخبار إِلى أوليائه الأشرار على الأرض من خلال استراقه السمع، ولكنّه يُمنع من الوصول إِلى هدفه برميه بالشهب(4). 3 - وذهب جمع من المفسّرين مثل العلاّمة الطّباطبائي في (تفسير الميزان) والطنطاوي في تفسير (الجواهر) إِلى حمل هذه الآيات على التشبيه والكناية وضرب الأمثال، أو ما يسمّى ب- (البيان الرمزي) ثمّ شرحوا ذلك بصور عدّة: ألف: نقرأ في تفسير الميزان: (أورد المفسّرون أنواعاً من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب، وهي مبينة على ما سبق إِلى الذهن من ظاهر الآيات والأخبار، إِنّ هناك أفلاكاً محيطة بالأرض تسكنها جماعات من الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شيء إِلاّ منها، وإِنّ في السماء الأُولى جمعاً من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب. وقد اتّضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء. ويحتمل - واللّه العالم - أنّ هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس، وهو القائل عزَّ وجلّ في سورة العنكبوت (43): (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إِلاّ العالمون)، وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب. وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالماً ملكوتياً ذا أفق أعلى، نسبته إِلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إِلى الأرض، والمراد لاقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للإِطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت(5). ب - والطنطاوي في تفسيره المعروف، هكذا يرى: (إِنّ العلماء المحتالين المرائين الذين يتبعهم عوام الناس دون أن تكون لهم الأهلية لأن يطلعوا على عجائب السماوات وبدائع العالم العلوي وأجرامه غير المحدودة، وما يحكمها من نظم وحساب دقيق، فإِنّ اللّه تعالى يمنع عنهم هذا العلم ويجعل هذه السماء المليئة بالنجوم الوضاءة بكل أسرارها في اختيار مَنْ له عقل ونباهة وإِخلاص وإِيمان، ومن الطبيعي أن يمنع هذا الصنف من العلماء من النفوذ في أسرار هذه السماء، فكل شيطان يطرد عن الحضرة الإِلهية سواء كان من البشر أو من غيرهم، وليس له حق الوصول إلى هذه الحقائق، ومتى ما اقترب منها طرد عنها، فيمكن أن يعيش هكذا أشخاص سنوات كثيرة ثمّ يموتون ولكنّهم لا يدركون هذه الأسرار أبداً، لهم أبصار ينظرون بها ولكن لا تستطيع رؤية هذه الحقائق، أليس العلم لا يناله إِلاّ عشاقه ولا يدرك جماله ولا ينظر إِليه إِلاّ عرفاؤه(6)؟!! ويقول في مكان آخر: ما المانع أن تكون هذه التعبيرات كناية، فيكون المنع الحسي رمزاً للمنع العقلي، والكناية من أجمل أنواع البلاغة، ألاّ ترى أن كثيراً من الناس حولك محبوسون في هذه الأرض، غائبةٌ أبصارهم، لا يسمعون إِلى الملأ الأعلى ولا يفهمون رموز هذه الدنيا وعجائبها وقد قذفوا من كل جانب، مطرودين حيث طردتهم شهواتهم وعداواتهم وكبرياؤهم وحروبهم وطمعهم وشرهم عن تلك المعاني العالية(7)، وإِن أصيب أحَدٌ بهذه الأهواء يوماً بسبب التلوثات التي تملأ قلبه وروحه فإِنّه سيطرد أيضاً. ج - وله كلام في مكان آخر، خلاصته: تبقى قائمة بين أرواح البشر المنتقلة إِلى عالم البرزخ مع الأرواح التي ما زالت مع البشر في الحياة الدنيا، وإذا ما توفر التشابه والسنخية فيما بينها فيمكن والحال هذه إحضارها والتكلم معها فتطلعها على أُمور واقعة ودقيقة جدّاً، ولا تتمكن من أن تعطي الصورة الحقيقية لبعض الأمور، لأنها لا تنقل بدقة إِلا ما هو ضمن عالمها المحدود، ولا يمكنها أن تصل إِلى عالم أعلى منها، فكما أنّ الأسماك لا تتمكن من اختراق عالمها المائي، كذلك هذه الأرواح فإِنّها لا تقوى على الخروج لأكثر من حدود عالمها. د - وقال بعض آخر: أظهرت الإِكتشافات الأخيرة وجود أشعة قوية تنبعث باستمرار من الفضاء البعيد، ويمكن استلامها على الأرض بوضوح بواسطة أجهزة استقبال خاصة، وإِنّ مصدر هذه الأمواج لا زال مجهولا، إِلاّ أن بعض العلماء يحتملون وجود كائنات حية كثيرة تعيش على الأجرام السماوية البعيدة وربّما كانت متفوقة علينا مدنياً فيرسلون هذه الأمواج ليخبرونا عن وجودهم وبعض أخبارهم، وفي تلك الأخبار مسائل جديدة علينا، ولكنّ الجن تسعى للإِستفادة من تلك المسائل فتطرد بتلك الأشعة القوية المقتدرة على أن لا تصل لفهم ما أرسل إِلى أهل الأرض(8). كانت هذه آراء المفسّرين والعلماء وأقوالهم المختلفة. نتيجة البحث طال بنا البحث في تفسير الآيات الآنفة الذكر، وقبل الخروج بمحصلة البحث لابدّ من ذكر بعض الملاحظات: 1 - أشار القرآن الكريم بكلمة "السماء" إِلى نفس هذه السماء التي يتبادر الذهن إِليها تارة، وإِلى السمو المعنوي والمقام العلوي تارة أُخرى. فمثلا نقرأ في الآية (40) من سورة الأعراف (إنّ الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء). فمن الممكن حمل معنى السماء هنا على الكناية عن مقام القرب من اللّه عزَّ وجلّ، كما نقرأ في الآية العاشرة من سورة فاطر (إِليه يصعد الحكم الطيب والعمل الصالح يرفعه). وكما هو بيّن أن كلا من الحكم الطيب والعمل الصالح ليسا من الأشياء التي يقال عنها ذلك، بل المراد هو الإِرتفاع إِلى مقام القرب الإِلهي والتشرف بالسمو والرفعة المعنوية. والمقصود من تعبير "أنزل" و"نزل" في آيات القرآن هو النّزول من الساحة الإِلهية المقدسة على قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وقرأنا في تفسير الآية (24) من سورة إِبراهيم (ألم تر كيف ضرب اللّه مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) إنّ أصل الشجرة الطيبة المشار إليها في الآية هو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) والفرع علي (عليه السلام) (والفرع هنا هو الأصل الثانوي الذي يرتفع في السماء) والأئمّة عليهم السلام هم الفروع الأصغر(9). وكذلك ما نقرؤه في أحد الأحاديث: "كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إِلى السماء". لا ريب أنّ "السماء" المستعملة هنا ليست السماء المُشَاهَدَة. نستنتج ممّا سبق أنّ "السماء" قد استعملت بمفهوميها المادي والمعنوي أو الحقيقي والمجازي. 2 - و"النجوم" كذلك، بمفهومها المادي... هذه الأجرام السماوية التي تشاهد في السماء. ومفهومها المعنوي... أُولئك العلماء والأشخاص الذين ينيرون درب المجتمعات البشرية. فكما أنّ سالك الصحراء وعابر البحر يستهديان بالنجوم والليالي الحالكة الداكنة، فكذلك المجتمعات البشرية، فإِنّها تسلك الطريق السليمة لترشيد حياتها ونيل سعادتها بنور أُولئك المؤمنين الواعين من العلماء والصالحين. وفي الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيّها اقتديتم اهتديتم"(10) وهو إِشارة جلية لهذا المعنى. كما نقرأ في تفسير علي بن إِبراهيم في ذيل الآية (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر)(11)... إنّ الإِمام (عليه السلام) قال: "النجوم آل محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم"(12). 3 - يستفاد من الرّوايات العديدة التي وردت في تفسير الآيات المبحوثة، أن منع الشياطين من الصعود إِلى السماوات وطردها بالشهب تمّ حين ولادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويستفاد من بعضها أنّ ذلك حدث أثناء ولادة عيسى بن مريم(عليه السلام)كذلك ولكن لفترة معينة، وأمّا عند ولادة نبيّنا الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد تمّ المنع بشكل كامل(13). ومن كل ما تقدم يمكننا القول: إِن "السماء" كناية عن سماء الحق والإِيمان، والشياطين تسعى أبداً لا ختراق هذه السماء والتسلل إِلى قلوب المؤمنين المخلصين عن طريق تخدير حماة الحق بأنواع الوساوس لصرعهم. ولكن علم وتقوى أولياء اللّه وقادة دعوة الحق من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والعلماء العاملين كفيل بأن يبعد عبدة الجبت والطاغوت عن هذه السماء. وهذا ما يساعدنا على فهم ذلك الترابط بين ولادة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أو ولادة المسيح (عليه السلام)، وبين طرد الشياطين عن السماء. ويساعدنا كذلك على أن نفهم تلك الرابطة بين الصعود إِلى السماء والإِطلاع على الأسرار، لتيقننا بعدم وجود أخبار خاصّة بين طبقات هذه السماء المشاهدة، وكل ما هناك لا يتعدى عجائب الخلقة التي صورها الباري جل شأنه والتي يمكن دراسة الكثير منها على سطح الأرض، والذي ربما أصبح شبيه بالبديهي من أن الأجرام السماوية المنتشرة في الفضاء اللامتناهي بعضها أجرام فاقدة للحياة وأُخرى حية، ولكنّ حياتها ليست كحياتنا. ولا بدّ من الإِلتفات إِلى أنّ مسألة وجود الشهب منحصرة ضمن منطقة الغلاف الجوي للأرض فقط، وذلك حينما تلتهب تلك الصخور المتساقطة صوب الأرض من خلال احتكاكها بالهواء، أمّا خارج منطقة الغلاف الجوي فخال من الشهب. نعم، هناك صخور وكرات تسبح في الفضاء إِلاّ أنّها لا تسمى شهباً إِلاّ بعد دخولها في منطقة الغلاف الجوي فتلتهب وتظهر للعيان على هيئة خط ناري واضح تخيل للناظر أنّها نجمة متحركة بسرعة. وكما هو معلوم، فإِنّ إِنسان العصر الحديث قد نفذ مراراً من هذه المنطقة، بل وغالى في نفوذه حتى وطأت قدماه سطح القمر (علماً بأنّ سمك الغلاف الجوي يبلغ من مائة إِلى مائتي كيلومتر طولا... وأنّ القمر يبعد عن الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف كيلومتر). فإِنّ كان المقصود من الشهب في الآية عين الشهب المشاهدة لنا، فيمكن القول: إِنّ علماء البشر قد اكتشفوا هذه المنطقة ولم يجدوا الأسرار الخاصة المدعاة. والخلاصة: يظهر لنا من خلال ما ذكر من قرائن وشواهد كثيرة أن المقصود من السماء هو... سماء الحق والحقيقة، وأنّ الشياطين ذوي الوساوس يحاولون أن يجدوا لهم سبيلا لاختراق السماء واستراق السمع، ليتمكنوا من إِغواء الناس بذلك، ولكنّ النجوم والشهب (وهم القادة الربانيون من الأنبياء والأئمّة والعلماء) يبعدونهم ويطردونهم بالعلم والتقوى. ولكنْ... بما أن القرآن الكريم بحر غير متناه، فلا ينبغي البناء القطعي على هذا التأويل، وربّما المستقبل سيحفل بتفسير آخر لهذه الآيات مستنداً على حقائق لم نصل لها في زماننا. ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾ فلا يدخلونها ولا يطلعون على حالها.