لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير طريق الوصول إلى الوحدة: بعد بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفّار في الآيات السّابقة شرع القرآن الكريم في هذه الآية في بحث اُصوليّ كلّي وجامع بالنسبة لظهور الدّين وأهدافه والمراحل المختلفة الّتي مرّ بها. في البداية تقول الآية (كان النّاس اُمّة واحدة)(1). فتبدأ هذه الآية ببيان مراحل الحياة البشريّة وكيفيّة ظهور الدّين لإصلاح المجتمع بواسطة الأنبياء وذلك على مراحل: المرحلة الاُولى: مرحلة حياة الإنسان الإبتدائيّة حيث لم يكن للإنسان قد ألف الحياة الإجتماعية، ولم تبرز في حياته التناقضات والإختلافات، وكان يعبد الله تعالى استجابةً لنداء الفطرة ويؤدّي له فرائضه البسيطة، وهذه المرحلة يحتمل أن تكون في الفترة الفاصلة بين آدم ونوح (عليهما السلام). المرحلة الثانية: وفيها اتّخذت حياة الإنسان شكلاً اجتماعيّاً، ولابدّ أنيحدث ذلك لأنّه مفطور على التكامل، وهذا لا يتحقّق إلاّ في الحياة الإجتماعيّة. المرحلة الثالثة: هي مرحلة التناقضات والإصطدامات الحتميّة بين أفراد المجتمع البشري بعد استحكام وظهور الحياة الإجتماعيّة، وهذه الإختلافات سواء كانت من حيث الإيمان والعقيدة، أو من حيث العمل وتعيين حقوق الأفراد والجماعات تحتّم وجود قوانين لرعاية وحل هذه الإختلافات، ومن هنا نشأت الحاجة الماسّة إلى تعاليم الأنبياء وهدايتهم. المرحلة الرابعة: وتتميّز ببعث الله تعالى الأنبياء لإنقاذ الناس، حيث تقول الآية (فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين). فمع الإلتفات إلى تبشير الأنبياء وإنذارهم يتوجّه الإنسان إلى المبدأ والمعاد ويشعر أنّ وراءه جزاءً على أعماله فيحس أنّ مصيره مرتبط مباشرةً بتعاليم الأنبياء وما ورد في الكتب السّماويّة من الأحكام والقوانين الإلهيّة لحل التناقضات والنّزاعات المختلفة بين أفراد البشر، لذلك تقول الآية (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه). المرحلة الخامسة: هي التمسّك بتعاليم الأنبياء وما ورد في كتبهم السماويّة لإطفاء نار الخلافات والنزاعات المتنوعة (الإختلافات الفكريّة والعقائديّة والإجتماعيّة والأخلاقيّة). المرحلة السادسة: واستمر الوضع على هذا الحال حتّى نفذت فيهم الوساوس الشيطانيّة وتحرّكت في أنفسهم الأهواء النفسانيّة، فأخذت طائفة منهم بتفسير تعليمات الأنبياء والكتب السماويّة بشكل خاطيء وتطبيقها على مرادهم، وبذلك رفعوا علم الإختلاف مرّة ثانية. ولكن هذا الإختلاف يختلف عن الإختلاف السابق، لأنّ الأوّل كان ناشئاً عن الجهل وعدم الإطّلاع حيث زال وانتهى ببعث الأنبياء ونزول الكتب السماويّة، في حين أنّ منبع الإختلافات الثانية هو العناد والإنحراف عن الحقّ مع سبق الإصرار والعلم، وبكلمة: (البغي)، وبهذا تقول الآية بعد ذلك (وما اختلف فيه إلاّ الّذين أُوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم). المرحلة السابعة: الآية الكريمة بعد ذلك تُقسّم الناس إلى قسمين، القسم الأوّل المؤمنون الّذين ينتهجون طريق الحقّ والهداية ويتغلّبون على كلّ الإختلافات بالإستنارة بالكتب السماويّة وتعليم الأنبياء، فتقول الآية: (فهدى الله الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) في حين أنّ الفاسقين والمعاندين ماكثون في الضلالة والإختلاف. وختام الآية تقول (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) وهذه الفقرة إشارة إلى حقيقة ارتباط مشيئة الله تعالى بأعمال الأفراد، فجميع الأفراد الرّاغبون في الوصول إلى الحقيقة يهديهم الله تعالى إلى صراط مستقيم ويزيد في وعيهم وهدايتهم وتوفيقهم في الخلاص من الإختلافات والمشاجرات الدنيويّة مع الكفّار وأهل الدنيا ويرزقهم السكينة والإطمئنان، ويبيّن لهم طريق النجاة والإستقامة. بحوث 1- الدين والمجتمع يستفاد من الآية أعلاه ضمنياً أنّ الدين والمجتمع البشري حقيقتان لا تقبلان الإنفصال، فلا يمكن لمجتمع أن يحيي حياة سليمة دون دين وإيمان بالله وبالآخرة، وليس بمقدور القوانين الأرضيّة أن تحلَّ الإختلافات والتناقضات الإجتماعيّة لعدم ارتباطها بدائرة إيمان الفرد وافتقارها التأثير على أعماق وجود الإنسان، فلا يمكنها حل الإختلافات والتناقضات في حياه البشر بشكل كامل، وهذه الحقيقة أثبتتها بوضوح أحداث عالمنا المعاصر، فالعالم المسمّى بالمتطوّر قد ارتكب من الجرائم البشعة ما لم نرَ له نظيراً حتّى في المجتمعات المتخلّفة. وبذلك يتّضح منطق الإسلام في عدم فصل الدّين عن السّياسة وأنه بمعنى تدبير المجتمع الإسلامي. 2- بداية التشريع ويتّضح من الآية أيضاً أنّ بداية انبثاق الدين بمعناه الحقيقي كانت مقترنة مع ظهور المجتمع البشري بمعناه الحقيقي، من هنا نفهم سبب كون نوح أوّل انبياء اُولوا العزم وأوّل أصحاب الشريعة والرسالة لا آدم. 3- الشرق الأوسط مهد الأديان الكبرى ومن الآية محل البحث نفهم الجواب على السؤال عن سبب ظهور الأديان الإلهيّة الكبرى في منطقة الشرق الأوسط (الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي ودين إبراهيم و...) لأنّ التاريخ يشهد على أنّ مهد الحضارات البشريّة كانت في هذه المنطقة من العالم وانتشرت منها إلى المناطق الاُخرى، ومع الإلتفات إلى الرابطة الشديدة بين الدين والحضارة وحاجة المجتمعات المتحضّرة إلى الدين من أجل حل الإختلافات والتناقضات الهدّامة يتّضح أنّ الدين لابدّ أن يتحقّق في هذه المنطقة بالذّات. وعندما نرى أنّ الإسلام انطلق من محيط جاهلي متخلّف كمجتمع مكّة ومدينة في تلك الأيّام، فذلك بسبب أنّ هذه المنطقة تقع على مفترق طرق عدّة حضارات عظيمة في ذلك الزّمان، ففي الشمال الشرقي من جزيرة العرب كانت الحضارة الفارسيّة وبقيّة من حضارة بابل، وإلى الشمال كانت حضارة الرّوم، وفي الشّمال الغربي كانت حضارة مصر القديمة بينما كانت حضارة اليمن في الجنوب. وفي الحقيقة أنّ مركز ظهور الإسلام في ذلك الزمان كان بمثابة مركز الدّائرة الّتي تُحيط بها الحضارات المهمّة في ذلك الزمان (فتأمّل بالدّقة). 4 -حلّ الإختلافات من أهم أهداف الدّين هناك عدّة أهداف للأديان الإلهيّة، منها تهذيب النّفوس البشريّة وإيصالها إلى المقام القرب الإلهي، ولكن من أهمّ الأهداف أيضاً هو رفع الإختلافات، لأنّ هناك بعض العوامل من قبيل القوميّة والرّس واللّغة و المناطق الجغرافية دائماً تكون عوامل تفرقة بين المجتمعات البشريّة، والأمر الّذي بإمكانه أن يوحّد هذه الحلقات المختلفة ويكون بمثابة حلقة إتّصال بين أفراد البشر من مختلف القوميّات والألوان واللّغات والمناطق الجغرافية هو الدّين الإلهي، حيث بإمكانه أن يهدم جميع هذه السدود، ويُزيل تمام هذه الحدود، ويجمع البشريّة تحت راية واحدة بحيث نرى نموذجاً من ذلك في مناسك الحجّ العباديّة والسياسيّة. وعندما نرى أنّ بعض الأديان والمذاهب هي السبب في الإختلاف والنّزاع بين طوائف البشر، لأنّها قد خالطتها الخرافات واقترنت بالتّعصب الأعمى، وإلاّ فإنّ الأديان الإلهيّة لو لم تتعرّض للتحريف لكانت سبباً للوحدة في كلّ مكان. 5- الدّليل على عصمة الأنبياء يذكر (العلاّمة الطباطبائي) في الميزان بعد أن يُقسّم عصمة الأنبياء إلى ثلاثة أقسام: 1- العصمة من الخطأ عند نزول الوحي واستلامه. 2- العصمة من الخطأ في تبليغ الرسالة. 3- العصمة من الذنب وما يؤدّي إلى هتك حرمة العبوديّة لله. يقول: إنّ الآية مورد البحث دليلٌ على عصمة الأنبياء من الخطأ في تلّقي الوحي وتبليغ الرّسالة، لأنّ الهدف من بعثتهم هو البشارة والإنذار للنّاس وبيان العقيدة الحقّة في الإعتقاد والعمل، وبذلك يمكنهم هداية النّاس عن هذا الطريق، ومن الواضح أنّ هذا الهدف لا يتحقّق بدون العصمة في تلّقي الوحي وتبليغ الرّسالة. القسم الثالث من العصمة يمكن استفادته من هذه الآية أيضاً، لأنّه لو صدر خطأ في تبليغ الرّسالة لكان بنفسه عاملاً على الإختلاف، ولو حصل تضاد بين أعمال وأقوال الأنبياء الإلهيّين بارتكابهم الذنب فيكون أيضاً عاملاً وسبباً للإختلاف، وبهذا فإنّ الآية أعلاه يمكن أن تكون إشارة إلى عصمة الأنبياء في جميع الأقسام الثلاثة المذكورة(2). ﴿كَانَ النَّاسُ﴾ قبل نوح أو بين آدم ونوح أو أهل السفينة ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على الفطرة لا مهتدين ولا كافرين ﴿فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ ليتخذ عليهم الحجة ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ متلبسا به ﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي الله أو الكتاب ﴿فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ في الحق أو الكتاب ﴿إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ أعطوا العلم به إذ جعلوا المزيل للاختلاف سببا لحصوله ﴿مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا﴾ ظلما وطلبا للرئاسة ﴿بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ﴾ بيان لما ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بلطفه وأمره ﴿وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ موصل إلى النجاة.