لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
(لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم). هي أبواب للذنوب التي يدخلون جهنم بسببها، وكل يحاسب بذنبه... كما هو الحال في أبواب الجنّة التي هي عبارة عن طاعات وأعمال صالحة ومجاهدة للنفس يدخل بها المؤمنون الجنّة. بحوث 1 - التكبر والغرور من المهالك العظام: المستفاد تربوياً من قصة إِبليس في القرآن هو أن الكبر والغرور من الأسباب الخطيرة في عملية الإِنهيار والسقوط من المكانة المحترمة المرموقة إِلى مدارك الدون والخسران. فكما هو معلوم أنّ إِبليس لم يكن من الملائكة (كما تشير إِلى ذلك الآية الخمسون من سورة الكهف) إِلاّ أنّه ارتقى الدرجات العُلا ونال شرف العيش بين صفوف الملائكة نتيجة لطاعته السابقة للّه عزَّوجلّ، حتى أنّ البعض قال عنه: إنّه كان معلماً للملائكة، ويستفاد من الخطبة القاصعة في (نهج البلاغه) أنّه عبد اللّه عزَّ وجلّ آلاف السنين. لكن شراك التعصب الأعمى وعبادة هوى النفس المهلك قد أدّيا الى خسرانه كل ذلك في لحظة تكبر وغرور. بل إِنّ حب الذات والغرور والتعصب والتكبر قد جعلته يستمر في موقفه المريض ويوغل قدمه في وحل الإِصرار على الإِثمّ والسير المتخبط في جادة العناد، فنسي أو تناسى ما للتوبة والإِستغفار من أثر إِيجابي، حتى دعته الحال لأن يشارك كل الظلمة والمذنبين من بني آدم في جرائمهم وذنوبهم بوسوسته لهم... وبات عليه أن يتحمل نصيبه من عذاب الجميع يوم الفزع الأكبر. وليس ابليس فحسب، بل إنّ التأريخ يحدثنا عن أصحاب النفوس المريضة ممن ركبهم الغرور والكبر فعاثوا في الأرض فساداً بعد أن غطت العصبية رؤاهم، وحجب الجهل بصيرتهم، وسلكوا طريق الظلم والإِستبداد وسادوا على الرقاب بكل جنون فهبطوا إِلى أدنى درجات الرذيلة والإِنحراف عن الطريق القويم. إِنّ هاتين السمتين الأخلاقيتين (التكبر والغرور) في الواقع... نار رهيبة محرقة. فكما أن مَنْ صرف وطراً من عمره في بناء وتأثيث دار، لربّما في لحظات معدودات يتحول إِلى هباء منثور بسبب شرارة صغيرة... فالتكبر والغرور يفعل فعل النّار في الحطب ولا تنفع معه تلك السنين المعمورة بالطاعة والبناء. فأيُّ درس أنطق من قصة إِبليس وأبلغ؟!! إِنّ إِبليس قد اختلطت عليه معاني الأشياء فراح يضع المعاني حسب تصوراته الخادعة المحدودة ولم يدرك أن النّار ليست أفضل وأشرف من التراب، والتراب مصدر جميع البركات كالنباتات والحيوانات والمعادن وهو محل حفظ المياه، وبعبارة اشمل هو منبع وأصل كل الكائنات الحية، وما عمل النّار إِلاّ الإِحراق وكثيراً ما تكون مخربة ومهلكة. ويصف أمير المؤمنين (عليه السلام) إِبليسَ بأنّه "عدو للّه، إِمام المتعصبين وسلف المستكبرين" ثمّ يقول: "ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبره ووضعه بترفعه، فجعله في الدنيا مدحوراً وأعد له في الآخرة سعيراً"(2). وكما أشرنا سابقاً أنّ إِبليس كان أوّل مَنْ وضع أُسس مذهب الجبر الذي ينكره وجدان أي إِنسان. حيث أنّ الدافع المهم لأصحاب هذا المذهب تبرئة ساحة المذنبين من أعمالهم المخالفة لشرع اللّه، وكما قرأنا في الآيات مورد البحث من أنّ إِبليس تذرع بتلك الكذبة الكبيرة لأجل تبرئة نفسه، وأنّه على حق في إِضلاله لبني آدم حين قال: (ربّ بما أغويتني لأُزينّن لهم في الأرض ولأُغوينهم أجمعين). 2 - على مَنْ يتسلط الشيطان؟ نرى من الضروري أن نكرر القول بأنّ نفوذ الوساوس الشيطانية في قلب الإِنسان لا تأتي فجأة أو إِجباراً، وإِنما بوجود الرغبة الكافية عند الإِنسان بفسح المجال أمام دخول الوساوس إِلى دواخله، وعلى هذا فالشيطان يعلم تماماً بأنْ ليس له سبيل على المخلصين الذين طهّروا أنفسهم في ظل التربية الخالصة من الشوائب والأدران وغسلوا قلوبهم من صدأ الشرك والضلال. وبتعبير القرآن الكريم إِنّ رابطة الشيطان مع الضالين هي رابطة التابع والمتبوع وليس رابطة المُجْبِرْ والمجبور. 3 - أبواب جهنم!! قرأنا في الآيات مورد البحث أن لجهنم سبعة أبواب (وليس بعيداً أن يكون ذكر العدد في هذا المورد للكثرة كما ورد هذا العدد في الآية السابعة والعشرين من سورة لقمان بهذا المعنى أيضاً). ومن الواضح أنّ تعدد أبواب جهنم (كما هو تعدد أبواب الجنّة) لم يكن لتسهيل أمر دخول الواردين نتيجة لكثرتهم، بل هي إِشارة إِلى الأسباب والعوامل المتعددة التي تؤدي لدخول الناس في جهنم، وأنّ لكل من هذه الذنوب باب معين يؤدي إِلى مدركه. ففي نهج البلاغة: "إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه"(3)، وفي الحديث المعروف: "إن السيوف مقاليد الجنّة"... فهذه التعبيرات تبيّن لنا بوضوح ما المقصود من تعدد أبواب الجنّة والنّار. وثمة نكتة لطيفة في ما روي عن الإِمام الباقر (عليه السلام): "إنّ للجنة ثمانية أبواب"(4)، في حين أن الآيات تذكر أن لجهنم سبعة أبواب، وهذا الإختلاف في العددين إِشارة إِلى أنّه مع كثرة أبواب العذاب والهلاك إِلاَّ أن أبواب الوصول إِلى السعادة والنعيم أكثر، (وقد تحدثنا عن ذلك في تفسير الآية الثّالثة والعشرين من سورة الرعد). 4 - (الحمأ المسنون) و(روح اللّه): يستفاد من الآيات أن خلق الإِنسان تمّ بشيئين متغايرين، أحدهما في أعلى درجات الشرف والآخر في أدنى الدرجات (بقياس ظاهر القيمة). فالطين المتعفن خلق منه الجانب المادي منه الإنسان، في حين جانبه الروحي والمعنوي خلق بشيء سُمي (روح اللّه). وبديهي أنّ اللّه سبحانه منزّه عن الجسمية وليس له روح، وإِنّما أضيف الروح إِلى لفظ الجلالة لإِضفاء التشريف عليها وللدلالة على أنّها روح ذات شأن جليل قد أودعت في بدن الانسان، بالضبط كما تسمّى الكعبة (بيت اللّه) لجلالة قدرها، وشهر رمضان المبارك (شهر اللّه) لبركته. ولهذا السبب نرى أن الخط التصاعدي الانسان يتساهى في العلو حتى يصل الى أن لا يرى سوى اللّه عزَّوجلّ، وخط تسافله من الإِنحطاط حتى يركد في أدنى مرتبة من الحيوانات (بل هم أضل) وهذا البون الشاسع بين الخطين التصاعدي والتنازلي بحد ذاته دليلٌ على الأهمية الإِستثنائية لهذا المخلوق. إِنّ شرف مقام الانسان وتكريمه يأتي من خلال هذا التركيب الخاص، ولكن ليس بفضل جنبته المادية لأنّه ليس سوى (حمأ مسنون) وإِنّما بفضل الروح الإِلهية المودعة فيه، بما تحمل من استعدادات ولياقة لأن تكون منعكساً للأنوار الإِلهية، تلك الأنوار التي استمد منها الإنسان شرف قدره ومقامه... ولا سبيل لتكامل الانسان إِلاّ ببنائه الروحي ووضع بعده المادي في خدمة طريق التكامل والوصول لساحة رضوانه جل شأنه. والمستفاد من الآيات المتعلقة بخلق آدم في أوائل سورة البقرة أنّ مسألة سجود الملائكة لآدم، كان لما أودع فيه من العلم الإِلهي الخاص. وقد أجبنا على سؤال: كيف يصحّ السجود لغير اللّه؟ وهل أنّ سجود الملائكة كان في حقيقة للّه عزَّ وجلّ لأجل هذا الخلق العجيب؟ أم كان لآدم؟... في تفسير الآيات المتعلقة بخلق آدم سورة البقرة. 5 - ما هو الجان؟ إنّ كلمة (الجن) في الأصل بمعنى: الشيء الذي يُسْتَرُ عن حس الانسان، فمثلا نقول (جَنَّهُ الليلُ) أو (فلما جنَّ عليه الليل) أي عندما غطته ستارة الليل السوداء، ويقال (مجنون) لمن فقد عقله أيْ سُتِرْ، و(الجنين) للطفل المستور في رحم أُمّه، و(الجنّة) للبستان الذي تغطي أشجاره أرضه، و(الجِنَان) للقلب الذي سُتِرَ داخل صدر الانسان، و(الجُنّه) للدرع الذي يحمي الإنسان من ضربات الأعداد. والمستفاد من آيات القرآن أن "الجِنَّ" نوعٌ من الموجودات العاقلة قد سُترت عن حس الانسان، وخُلِقَتْ من النّار، أو من مارج من نار، أيْ من صافي شعلتها، وابليس من هذا الصنف. وقد عبّر بعض العلماء عن الجن بأنّها: نوع من الأرواح العاقلة المجردة من المادة (وواضح أن تجردها ليس كاملا، فما يخلق من المادة فهو مادي، ولكنْ يمكن أن يكون نصف تجرد لأنه لا يدرك بحواسنا، وبتعبير آخر: إنّه نوع من الجسم اللطيف). ويستفاد من الآيات القرآنية أيضاً أنّ الجن فيهم المؤمن المطيع والكافر العاصي، وأنّهم مكلفون شرعاً، ومسؤولون. ومن الطبيعي أنّ شرح هذه الأُمور ومسألة انسجامها مع العلم الحديث يتطلب منا بحثاً مطولا، وسنتناوله إن شاء اللّه في تفسير سورة الجن. وممّا ينبغي الإِشارة إِليه في هذا الصدد... أنّ كلمة "الجان" الواردة في الآيات مورد البحث هي من مادة (الجن) ولكن... هل ترمزان إِلى معنى واحد؟ فقد ذهب بعض المفسّرين إِلى أن الجان نوع خاص من الجن، ولكننا لا نرى ذلك. فلو جمعنا الآيات القرآنية الواردة بهذا الشأن مع بعضها البعض لا تضح أن كلا المعنيين واحد، لأن الآيات القرآنية وضعت "الجن" في قبال الانسان تارة، ووضعت "الجان" تارة أُخرى. فمثلا نقرأ في الآية (88) من سورة الإِسراء (قل لئن اجتمعت الإِنس والجن). وفي بعض الآية (56) من سورة الذاريات (وما خلقت الجن والإِنس إِلاّ ليعبدون). في حين نقرأ في الآية (15) من سورة الرحمن (خلق الإِنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار). وفي الآية (39) من نفس السورة (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان). فمن مجموع الآيات أعلاه والآيات القرآنية الأُخرى يستفاد بوضوح أن الجّن والجان لفظان لمعنى واحد، ولهذا وردت في الآيات السابقة كلمة "الجن" في مقابل الإِنسان، وكذا الحال بالنسبة لل- "جان". وينبغي التنويه إِلى أن القرآن الكريم قد ذكر "الجان" ويريد به نوعاً من الأفاعي كما جاء في قصة موسى (عليه السلام) (كأنّها جان) في سورة القصص - 31، إِلاّ أن ذلك خارج نطاق بحثنا. 6 - القرآن وخلق الإِنسان: شاهدنا في الآيات الأنفة أن القرآن قد تناول مسألة خلق الإِنسان بشكل مختصر ومكثف تقريباً، لأنّ الهدف الأساسي من التناول هو الجانب التربوي في الخلق، وورد نظير ذلك في أماكن أُخرى من القرآن، كما في سورة السجدة، والمؤمنون، وسورة ص، وغيرها. وبما أنّ القرآن الكريم ليس كتاباً للعلوم الطبيعية بقدر ما هو كتاب حياة الإِنسان يرسم له فيه أساليب التربية وأسس التكامل. فلا ينتظره منه أن يتناول جزئيات هذه العلوم من قبيل تفاصيل: النمو، التشريح، علم الأجنّة، علم النبات وما شابه ذلك، إِلاّ أنّه لا يمنع من أن يتطرق بإِشارات مختصرة إِلى قسم من هذه العلوم بما يتناسب مع البحث التربوي المراد طرحه. بعد هذه المقدمة نشرع بالموضوع من خلال بحثين: 1 - التكامل النوعي من الناحية العلمية. 2 - التكامل النوعي وفق المنظور القرآني. في البدء، نتناول البحث الأوّل وندرس المسألة وفق المقاييس الخاصة للمعلوم الطبيعية بعيداً عن الآيات والرّوايات: ثمة فرضيتان مطروحتان في أوساط علماء الطبيعة بشأن خلق الكائنات الحية بما فيها الحيوانات والنباتات: ألف: فرضية تطوّر الانواع (ترانسفور ميسم) والتي تقول: إِنّ الكائنات الحية لم تكن في البداية على ما هي عليه الآن، وإِنّما كانت على هيئة موجودات ذات خلية واحدة تعيش في مياه المحيطات، وظهرت بطفرة خاصة من تعرقات طين أعماق البحار. أيْ أنّها كانت موجودات عديمة الروح، وقد تولدت منها أوّل خلية حية نتيجة لظروف خاصّة. وهذه الكائنات الحية لصغرها لا ترى بالعين المجرّدة وقد مرت بمراحل التكامل التدريجي وتحولت من نوع إِلى آخر. وتمّ انتقالها من البحار إِلى الصحاري ومنها إِلى الهواء... فتكونت بذلك أنواع النباتات والحيوانات المائية والبرية والطيور. وإِن أكمل مرحلة وأتمّ حلقة لهذا التكامل هو الإِنسان الذي نراه اليوم، الذي تحول من موجودات تشبه القرود إِلى القرود التي تشبه الإِنسان ثمّ وصل إِلى صورته الحالية. ب - فرضية ثبوت الأنواع (فيكنسيسم)، والتي تقول: إنّ أنواع الكائنات الحية منذ بدايتها وما زالت تحمل ذات الأشكال والخواص، ولم يتغير أيَّ من الأنواع إلى نوع آخر، ومن جملتها الإِنسان فكان له صورته الخاصّة به منذ بداية خلقه. وقد كتب علماء كلا الفريقين بحوثاً مطولة لإثبات عقيدتهم، وجرت مناظرات ومنازعات كثيرة في المحافل العلمية حول هذه المسألة، وقد اشتد النزاع عندما عرض كل من (لامارك) العالم الفرنسي المعروف المتخصص بعلوم الأحياء والذي عاش بين أوخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، و(داروين) عالم الأحياء الإِنكليزي الذي عاش في القرن التاسع عشر نظراتهما في مسألة تطوّر الانواع بأدلة جديدة. وممّا ينبغي التنوية إِليه، هو أنّ معظم علماء اليوم يميلون إِلى فريضة تطوّر أو تكامل الانواع هذه خصوصاً في محافل العلوم الطبيعية. أدلة القائلين بالتكامل: يمكننا تلخيص أدلتهم بثلاثة أقسام: الأوّل: الأدلة المأخوذة من الهياكل العظمية المتحجرة للكائنات الحيّة القديمة فإن الدراسات لطبقات الأرض المختلفة (حسب اعتقادهم) تُظهر أن الكائنات الحيّة قد تحولت من صور بسيطة إِلى أُخرى أكمل وأكثر تعقيداً، ولا يمكن تفسير ما عثر عليه من متحجرات الكائنات الحية إِلاّ بفرضية التكامل هذه. الثّاني: مجموع القرائن التي جمعت في (التشريح المقارن). ويؤكّد هؤلاء العلماء عبر بحوثهم المطولة المفصلة: إنّنا عندما نشرّح الهياكل العظمية للحيوانات المختلفة ونقارنها فيما بينها، نجد أن ثمّة تشابهاً كبيراً فيما بينها، ممّا يشير إلى أنّها جاءت من أصل واحد. الثّالث: مجموع القرائن التي حُصِلَ عليها من (علم الأجنَّة). فيقولون: إنّنا لو وضعنا جميع الحيوانات في حالتها الجنينية - قبل أن تأخذ شكلهاالكامل - مع بعضها، فسنرى أنّ الأجنَّة قبل أن تتكامل في رحم أُمهاتها أو في داخل البيوض تتشابه إِلى حد كبير... وهذا ما يؤكّد على أنّها قد جاءت في الأصل من شيء واحد. أجوبة القائلين بثبوت الأنواع: إِلاّ أن القائلين بفرضية ثبوت الأنواع لديهم جوابٌ واحد لجميع أدلة القائلين بالتكامل وهو: أن القرائن المذكورة لا تملك قوّة الإِقناع، والذي لا يمكن إِنكاره أن الأدلة الثلاثة توجد في الذهن احتمالا ظنياً لمسألة التكامل، إِلاّ أنّها لا تقوى أن تصل إِلى حال اليقين أبداً. وبعبارة أوضح: إنّ إثبات فرضية التكامل وانتقالها من صورة فرض علمي إلى قانون علمي قطعي... إمّا أن يكون عن طريق الدليل العقلي، أو عن طريق الحس والتجربة والإِختيار، ولا ثالث لها. أمّا الأدلة العقلية والفلسفية فليس لها طريق إِلى هذه المسائل كما نعلم، وأما يد التجربة والإِختيار فأقصر من أن تمتد إِلى مسائل قد امتدت جذورها إِلى ملايين السنين. إنّ ما ندركه بالحس والتجربة لا يتعدى بعض الحالات السطحية، ولفترة زمنية متباعدة، على شكل طفرة وراثية (موتاسيون) في كل من الحيوان والنبات. فمثلا... نرى أحياناً في نسل الأغنام العادية ولادة مفاجئة لخروف ذي صوف يختلف عن صوف الخراف العادية، فيكون أنعم وأكثر ليناً من العادية بكثير، فيكون بداية لظهور نسل جديد يسمّى (أغنام مرينوس). أو أنّ حيوانات تحصل فيها الطفرة الوارثية فيتغير لون عيونها أو أظفارها أو شكل جلودها وما شابه ذلك... لكنّه لم يشاهد لحدّ الآن طفرة تؤدي إِلى حصول تغيير مهم في الأعضاء الأصلية لبدن أيّ حيوان، أو يتبدل نوع منها إِلى نوع آخر. بناء على ذلك... يمكننا أنْ نتخيل أنّ نوعاً من الحيوان يتحول إِلى نوع آخر بطريق تراكم الطفرة الوراثية، كأن تتحول الزواحف الى طيور ولكنّ ذلك ليس سوى حدس ومجرّد تخيل لا غير، ولم نر الطفرات الوارثية قد غيرت عضواً أصلياً لحيوان ما إِلى صورة أُخرى. نخلص ممّا تقدم إِلى النتيجة التالية: إِن الأدلة التي يطرحها أنصار فرضية (الترانسفور ميسم) لا تتجاوز كونها فرضاً لا غير، لذا نرى أنصارها يعبرون عنها ب- (فرضية تطوّر الانواع) ولم يجرأ أيٌ منهم من تسميتها بالقانون أو الحقيقة العلمية. نظرية التكامل و... الإِيمان باللّه: الكثير ممّن يحاولون تصوير نوع من التضاد بين هذه الفرضية ومسألة الإِيمان باللّه، ولعل الحق يعطى لهم من جهة، حيث أنّ العقيدة الداروينية في واقعها قد أوجدت حرباً شعواء بين أصحاب الكنيسة من جانب ومؤيدي داروين من جانب آخر، حتى وصل الصراع ذروته بين الطرفين في تلك الفترة بعدما لعب الظرف السياسي وكذا الإِجتماعي دورهما (ممّا لا يسع المجال لشرح ذلك هنا)، فكانت النتيجة أن اتهم أصحاب الكنيسة الداروينية بأنّها لا تنسجم مع الإِيمان باللّه. وقد كشفت الأيّام عن عدم وجود تضاد بين الأمرين، فإِنّنا سواء قبلنا بفرضية التكامل أو نفيناها لفقدانها الدليل، فلا يمنع من الإِيمان باللّه بكلا الإِحتمالين. فإذا قبلنا بالفرضية فلكونها قانوناً علمياً مبنياً على العلة والمعلول، ولا فرق في العلاقة بين العلة والمعلول في عالم الكائنات الحية وبقية الموجودات، فهل يعتبر اكتشاف العلل الطبيعية من قبيل نزول الأمطار، المد والجزر في البحار، الزلازل وما شابهها، مانعاً من الإِيمان باللّه؟ الجواب بالنفي قطعاً. إَذن فاكتشاف وجود رابطة وعلاقة تكاملية بين أنواع الموجودات الحية لا يؤدي إِلى تعارض مع مسألة الإِيمان باللّه كذلك. إذن، فالأشخاص الذين يتصورون أن كشف العلل الطبيعية ينافي الإِيمان بوجود اللّه هم الذين يذهبون هذا المذهب وإلاّ فإِنّ كشف هذه العلل ليس - فقط - لا يتعارض مع التوحيد، وإِنّما سيعطينا أدلة جديدة من عالم الخليقة لإِثبات وجوده سبحانه وتعالى. وممّا ينبغي ذكره: أنّ داروين قد تبرأ من تهمة الإِلحاد وصرح في كتابه (أصل الأنواع) قائلا: إنّني مع قبولي لتكامل الأنواع فإنّي اعتقد بوجود اللّه، واساساً فإنّه بدون الاعتقاد بوجود اللّه لا يمكن توجيه مسألة التكامل. وقد كُتب عن داروين بما نصه: (إِنّه بقي مؤمناً باللّه الواحد رغم قبوله بالعلل الطبيعية في ظهور الأنواع المختلفة من الأحياء، وقد كان إِحساسه بوجود قدرة مافوق البشر يشتد في أعماقه كلما تقدم في السن، معتبراً أن لغز الخلق يبقى لغزاً محيراً للإِنسان)(5). كان يعتقد أن توجيه هذا التكامل النوعي المعقد والعجيب، وتحويل كائن حي بسيط جدّاً إِلى كل هذه الأنواع المختلفة من الأحياء لا يتمّ إِلاّ بوجود خطة دقيقة يضعها ويسيرها عقل كلي. وهو كذلك... إِذ كيف يمكن إِيجاد كل هذه الأنواع العجيبة والمحيرة والتي لكل منها تفصيلات وشؤون واسعة، من مادة واحدة بسيطة جداً وحقيرة... كيف يمكن ذلك بدون الإِستناد على علم وقدرة مطلقين؟!! النتيجة: إِنّ الضجّة المفتعلة في وجود تضاد بين عقيدة التكامل النوعي وبين مسألة الإِيمان باللّه إنّما هي بلا أساس وفاقدة للدليل (سواء قبلنا بالفرضية أو لم نقبلها). تبقى أمامنا مسألة جديرة بالبحث وهي: هل أنّ فرضية تطور الأنواع تتعارض مع ما ذكره القرآن حول قصة خلق آدم، أو لا؟ القرآن ومسألة التكامل: الجدير بالذكر أن كلا من مؤيدي ومنكري فرضية التكامل النوعي - نعني المسلمين منهم - قد استدل بآيات القرآن الكريم لإِثبات مقصوده، ولكنّهما في بعض الأحيان وتحت تأثير موقفهما قد استدلا بآيات لا ترتبط بمقصودهما إِلاّ من بعيد، ولذلك سنتطرق إِلى الآيات القابلة للبحث والمناقشة. أهم آية يتمسك بها مؤيدو الفرضية، الآية الثّالثة والثلاثون من سورة آل عمران (إِنّ اللّه اصطفى آدم ونوحاً وآل إِبراهيم، وآل عمران على العالمين). فيقولون: كما أنّ نوحاً وآل إِبراهيم وآل عمران كانوا يعيشون ضمن أُممهم فاصطفاهم اللّه من بينهم فكذلك آدم، أي ينبغي أنّه كان في عصره وزمانه أناس باسم "العالمين" فاصطفاه اللّه من بينهم، وهذا يشير إِلى أن آدم لم يكن أوّل إِنسان على وجه الأرض، بل كان قبله أناس آخرون، ثمّ امتاز آدم من بينهم بالطفرة الفكرية والروحية فكانت سبباً لاصطفائه من دونهم. هذا وذكروا آيات أُخر ولكنّها من حيث الأصل لا ترتبط بمسألة البحث، ولا يعدو تفسيرها بالتكامل أن يكون تفسيراً بالرأي، وبالبعض الآخر مع كونه ينسجم مع التكامل النوعي إِلاّ أنّه ينسجم مع الثبوت النوعي والخلق المستقل لآدم كذلك، ولهذا ارتأينا صرف النظر عنها. أمّا ما يؤخذ على هذا الإستدلال فهو أنّ كلمة "العالمين" إنْ كانت بمعنى الناس المعاصرين لآدم (عليه السلام) وأنّ الإِصطفاء كان من بينهم، كان ذلك مقبولا، أمّا لو اعتبرنا "العالمين" أعم من المعاصرين لآدم، حيث تشمل حتى غير المعاصرين، كما روي في الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل فاطمة عليها السلام حيث قال: "أمّا إبنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين"، ففي هذه الحال سوف لا تكون لهذه الآية دلالة على مقصودهم، وهو شبيه بقول قائل: إِنّ اللّه تعالى اصطفى عدّة أشخاص من بين الناس جميعاً في كل القرون والأزمان، وآدم (عليه السلام) أحدهم، وعندها سوف لا يكون لازماً وجود أناس في زمان آدم كي يطلق عليهم اسم "العالمين" أو يصطفي آدم من بينهم، وخصوصاً أن الإِصطفاء إِلهي، واللّه عزَّوجلّ مطلع على المستقبل وعلى كافة الأجيال في كل الأزمان(6). وأمّا مؤيدو ثبوت الأنواع فقد اختاروا الآيات مورد البحث وما شابهها، حيث نقول إِن اللّه تعالى خلق الانسان من تراب من طين متعفن. ومن الملفت للنظر أن هذا التعبير قد ورد في صفة خلق "الإِنسان" (ولقد خلقنا الإِنسان من صلصال من حمأ مسنون) - الآية السادسة والعشرون من سورة الحجر ـ، وأيضاً في صفة خلق "البشر" (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون) - الآية الثامنة والعشرون من سورة الحجر ـ، وفي مسألة سجود الملائكة بعد خلق شخص آدم أيضاً (لاحظ الآيات 29، 30، 31 من سورة الحجر). عند الملاحظة الأُولى للآيات يظهر أن خلق آدم كان من الحمأ المسنون أوّلاً، ومن ثمّ اكتملت هيئته بنفخ الروح الإِلهية فيه فسجد له الملائكة إِلاّ إِبليس. ثمّ إِنّ أُسلوب تتابع الآيات لا ينم عن وجود أيٍّ من الأنواع الأُخرى منذ أن خلق آدم من تراب حتى الصورة الحالية لبنيه. وعلى الرغم من استعمال الحرف "ثمّ" في بعض من هذه الآيات لبيان الفاصلة بين الأمرين، إِلاّ أنّه لا يدل أبداً على مرور ملايين السنين ووجود آلاف الأنواع خلال تلك الفاصلة. بل لا مانع إِطلاقاً من كونه إِشارة إِلى نفس مرحلة خلق آدم من الحمأ المسنون، ثمّ مرحلة خلقه من الص? ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ﴾ أطباق أسفلها جهنم ثم لظى ثم الجحيم ثم الهاوية ثم السعير وقيل قسم قرار جهنم سبعة أقسام لكل قسم بابه ﴿لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ﴾ من الأتباع ﴿جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾ مقرر على حسب مراتبهم في المتابعة.