لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
قل: أنذركم من أمر اللّه بنزول عذابه عليكم (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين)(6)، أي الذين قسّموا الآيات القرآنية أصنافاً، فما كان ينفعهم أخذوه، وما لا ينسجم ومشتهياتهم تركوه. فبدل أن يتخذوا كتاب اللّه هادياً وقائداً لهم، جعلوه كآلة بأيديهم ووسيلة للوصول لأهدافهم الشريرة، فلو وجدوا فيه كلمة واحدة تنفعهم لتمسكوا بها، ولو وجدوا ألف كلمة لا تنسجم مع منافعهم الدنيوية لتركوها بأجمعها!!!! بحوث 1 - القرآن... عطاء إِلهي عظيم يخبر اللّه تعالىْ في الآيات المذكورة نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعنوان تنبيه لجميع مسلمي العالم، أن هذا القرآن جعل في اختياركم، وفيه من العطاء ما لا يُعَدْ، وليكن رأسمالكم الذي تتعاملون فيه في حياتكم، ولو عملتم به لجعلتم دنياكم كلها سعادة ورفاه وأمن وصلاح. وهذه حقيقة يعترف بها حتى غير المسلمين، فهم يعتقدون بأنّ المسلمين إِذا أخذوا القرآن وجعلوه أساس حياتهم، وعملوا بأحكامه وهديه، فسيكونون من القوّة والتقدم بحيث لا يسبقهم في ذلك أحد. فنرى مثلا، سورة الحمد "سبعاً من المثاني" والتي تسمّى "خاتمة الكتاب" لوحدها تمثل مدرسة كاملة للحياة: فأوّلها... يشير إِلى خالق الوجود الذي يربي جميع أهل العالم في مسيرة تكاملية شاملة، هذا الخالق الذي وسعت رحمته "خاصّة" وعامّة كل شيء... ثمّ تشير إِلى محكمة العدل الإِلهية التي يكفل الإيمان بها خلق رقابة دقيقة على جميع سلوكيات الإنسان ونواياه. ثمّ الإِشارة إِلى عدم الإِتكال على غير اللّه، وعدم الخضوع والتسليم لغيره لتتهيأ الأرضية الصالحة للسير على صراطه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ميل لا إِلى شرق ولا إِلى غرب، كما أنّه ليس فيه إِفراط ولا تفريط، وكذلك ليس فيه ضلال ولا غضب من اللّه عزَّوجلّ. إنّها جملة أُمور، لو تمثلها الإِنسان وبنى عليها كيانه، لكانت كفيلة بأن تجعل له شخصية سامية متكاملة. وللأسف الشديد فقد وقع هذا العطاء الإِلهي بأيدي أُناس لم يعرفوا جلالة قدره، ولم يغورو العمق معناه، بل إنّهم من الجهل بمكان حتى وصل بهم الأمر أن تركوا تلك الآيات الرّبانية المنجية من التيه والضلال والجهل، وركضوا لاهثين وراء مَنْ ملكته شهواته ومَنْ لم يصل إِلى أدنى درجات النضج الفكري، ليستجدوا منهم القوانين والبرامج التربوية التي صنعها جهلهم المتلبس بلباس العلم والتقدم!! فهؤلاء المساكين يبيعون أغلى ما عندهم بثمن بخس، ويشترون به ما يبعدهم عن بناء أُخراهم!! ولا يعني هذا بأنّا ضد التقدم التقني، بل علينا أن لا نحصر كل أنفسنا في هذا الجانب من الحياة الإِنسانية... ففي الوقت الذي نجد في القرآن تلك العيون الفياضة بالمعنويات، نراه كذلك صاحب برامج حيوية في مجالات التقدم والرفاه الماديين، وهذا ما أوضحناه في الآيات المتقدمة وما سنزيد فيه في الآيات القادمة إِن شاء اللّه تعالى. 2 - الطمع بما عند الغير... مصدر الإِنحطاط هناك الكثير من أصحاب العيون الضيقة الذين يلاحظون هذا وذاك باستمرار بعيون ملؤها الطمع والجشع!! لقد دأب هؤلاء على قياس حالهم وحال الآخرين ويغتمون غماً شديداً فيما لو وجدوا أن شيئاً من الحاجات المادية الحياتية ناقصاً عندهم، فيبذلون كل شيء في سبيل الحصول عليها حتى وإِن كلفهم ذلك خسارة القيم الإِنسانية وبيع كرامتهم!! هذا نمط من التفكير ينم عن حالة التخلف، ويكشف عن الشعور بعقدة الحقارة ونقص الهمة. وهو من العوامل الفاعلة في تخلف الإِنسان في حياته، وعلى كافّة الأصعدة. والشخص المستقل لا يتعامل مع مجريات الحياة بذلك النمط من التفكير المتخلف، وإِنّما يستعمل قواه الفكرية والجسمانية في طريق رشده وتكامله، فهو كمن يحدث نفسه قائلا: بما أنّه لا ينقصني عن الآخرين شيء، ولا يوجد دليل على عدم استطاعتي التقدم أكثر منهم أو الوصول لمصافهم... فلماذا أمدٌ عيني لما متع به الآخرين من مال وجاه وما شاكل... فصاحب الشخصية المستقلة لا يربط هدفه ومقصده من الحياة بالجوانب المادية البحتة فقط، بل يطلبها لإشباع ما يحتاجه روحياً وتربوياً، ويطلبها لكي يحفظ بها استقلاله وحريته، ولكي لا يكون عالة على الآخرين، فهو لا يطلبها بحرص، ولا يطلبها بكل ما يملك، لأنّ ذلك ليس بيع الأحرار، ولا هو بيع عباد اللّه الصالحين. ونختم الحديث بالحديث النّبوي الشريف: "مَنْ رمى ببصره ما في يد غيره كثر همّه ولم يشف غيظه"(7). 3 - تواضع القائد لقد أُوصي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مراراً من خلال القرآن أنْ يكون مع المؤمنين متواضعاً، محبّاً، سهلا ورحيماً، والوصايا ليست منحصرة بخصوص نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هي عامّة لكل قائد وموجّه، سواء كانت دائرة قيادته واسعة أم محدودة، فعليه أن يأخذ بهذا الأصل الأساسي في الإِدارة والقيادة الصحيحة. إِنّ حبّ وتعلق الأفراد بقائدهم من الأُسس الفاعلة لنجاح القائد، وهذا ما لا يتحقق من دون تواضعه وطلاقة وجهه وحبّه لخير أفراده. أمّا خشونة وقساوة القائد فلا تؤدي إِلاّ إِلى فصم رابطة الإِلتحام بينه وبين الأفراد ممّا يؤدى إِلى تفرق وتشتت الناس عن قائدهم. قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في رسالته إِلى محمّد بن أبي بكر: "فاخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآس بينهم في اللحظة والنظرة"(8). 4 - مَنْ هم المقتسمون؟ إنّ التوجيهات الإِلهية بلاشك تراعى فيها المصلحة العامّة ومصلحة الأفراد بصورة عامة، ولكن البعض منها قد يوافق مصالحنا الشخصية بحسب الظاهر والبعض الآخر على خلافها. ومن خلال قبول أو رفض ما يدعونا إِليه اللّه يمحص المؤمن الخالص من المدعي للإِيمان، فالذي يقبل كل شيء نازل من اللّه ويسلم له، حتى وإِنّ ظاهره لا يتوافق مع مصلحته، ويقول "كل من عند ربّنا" ولا يجرؤ على تجزئة أو تقسيم أو تبعيض الأحكام الإِلهية... فذلك هو المؤمن حقّاً. أمّا الذين استفحل المرض في قلوبهم فيحاولون تسخير دين اللّه وأحكامه لخدمة مصالحهم الشخصية، فيقبلون ما يدعم منافعهم ويتركون غيره، فتراهم يجزؤون الآيات القرآنية، بل وتراهم في بعض الأحيان يجزؤون الآية الواحدة، فما يوافق ميولهم احتذوا به ويتركون القسم الباقي من الآية!! ولكن من القبح أن نردد ما قاله بعض الأقوام السابقة (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) فهذا شأن عبيد الدنيا. أمّا معيار تشخيص أتباع الحق من أتباع الباطل فمن خلال التسليم للأوامر والتوجيهات الإِلهية التي لا تنسجم مع الميول والأهواء والمنافع الدنيوية، فمن هنا يُعرف الصادق من الكذاب والمؤمن من المنافق. وتجدر الإِشارة هنا إِلى وجود تفاسير أُخرى لمعنى المقتسمين (غير ما ذكرناه)، حتى أنّ القرطبي قد ذكر في تفسيره سبعة آراء في معنى هذه الكلمة، إِلاّ أنّ أكثرها خال من القرينة، والبعض الآخر لا يخلو من مناسبة وهو ما سنذكره أدناه: فمنها... أنّ جمعاً من رؤوس المشركين كانوا يقفون في أيّام الحج على رؤوس طرق وأزقة مكّة، ويشرع كل واحد منهم بالسخرية والإِستهزاء بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن لينفروا الناس عنه. فبعض يقول: إنّه " مجنون " فإِنّ ما يقوله ليس بموزون... وبعض يقول: إنّه " ساحر " وقرآنه نوع من السحر... وبعض يقول: إنّه " شاعر " والنغمة البلاغية للآيات السماوية هي شعر... وبعض يقول: إنّه " كاهن " وإِنّ أخبار القرآن الغيبية هي نوع من الكهانة. وقد سُمي هؤلاء بالمقتسمين لتقسيمهم شوارع وأزقة مكّة ومعابرها بينهم ضمن خطة دقيقة ومحسوبة. ولا مانع من دخول هذا التّفسير وما ذكرناه معاً ضمن مفهوم الآية المبحوثة. ﴿كَمَا أَنزَلْنَا﴾ متعلق بآتيناك أي أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا ﴿عَلَى المُقْتَسِمِينَ﴾ وهم أهل الكتاب.