وبعد الإِشارة إِلى خلق السماوات والأرض وما فيها من أسرار لا متناهية يعرّج القرآن الكريم إِلى بعض تفاصيل خلق الإِنسان من الناحية التكوينية فيقول: (خلق الإِنسان من نطفة فإِذا هو خصيم مبين).
"النطفة" (في الأصل) بمعنى: الماء القليل، أو الماء الصافي، ثمّ أطلقت على قطرات الماء التي تكون سبباً لوجود الإِنسان بعد تلقيحها.
وحقيقة التعبير يراد به تبيان عظمة وقدرة اللّه عزَّ وجلّ، حيث يخلق هذا المخلوق العجيب من قطرة ماء حقيرة مع ما له من قيمة وتكريم وشرف بين باقي المخلوقات وعند اللّه أيضاً.
هذا إِذا ما اعتبرنا "الخصيم" بمعنى المدافع والمعبر عمّا في نفسه، كما تخبرنا الآية (105) من سورة النساء بذلك: (ولا تكن للخائنين خصيماً) كما ذهب إِليه جمع من المفسّرين.
وهناك من يذهب إِلى تفسير آخر، خلاصته: بقدرة اللّه التامة خُلق الإِنسان من نطفة حقيرة، ولكنّ هذا المخلوق غير الشكور يقف في كثير من المواضع مجادلا خصيماً أمام خالقه، واعتبروا الآية السابعة والسبعين من سورة يس شاهداً على ما ذهبوا إِليه.
إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل كما يبدو - أقرب من الثّاني، لأنّ الآيات أعلاه في مقام بيان عظمة اللّه وقدرته، وتتبيّن عظمته بشكل جلي حين يخلق كائناً شريفاً جداً من مادة ليست بذي شأن في ظاهرها.
وجاء في تفسير علي بن إِبراهيم: (خلقه من قطرة من ماء منتن فيكون خصيماً متكلماً بليغاً)(1).
﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ﴾ منطيق يجادل عن نفسه ﴿مُّبِينٌ﴾ لحجته.