وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجاً عاماً شاملا لكل الموجودات المادية وغير المادية، وفي أي مكان، فتقول: (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون)، مسلمين لله ولأوامره تسليماً كاملا.
وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إِلاّ مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.
وبما أنّ جميع مخلوقات اللّه في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإِرادة الإِلهية فإِنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباري عزَّ وجلّ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله... والخلاصة: كلها دليل على ذاته المقدسة.
"الدابة": بمعنى الموجودات الحية، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.
وقد إِحتمل البعض: عبارة "من دابة" قيد ل- "ما في الأرض" فقط، أيْ: إِنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.
ويبدو ذلك بعيداً بناءً على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة).
صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية، ولكنّ تخصيص الإِشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.
وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من: الإِنسان العاقل المؤمن، والملائكة، والحيوانات الأُخرى، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الإِختياري والتشريعي وكذا التكويني الإِضطراري.
أمّا الإِشارة إِلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب، ولكنْ ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم "الدابة".
وروي في حديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "إِنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجوداً منذ خلقهم إِلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من مخافة اللّه تعالى، لا تقطر من دموعهم قطرة إِلاّ صارت ملكاً، فإِذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا: ما عبدناك حق عبادتك"(4).
أمّا جملة (وهم لا يستكبرون) فإِشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيٌّ استكبار عند سجودها وخضوعها لله عزَّوجلّ.
﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ ينقاد لأمره وإرادته ﴿مِن دَآبَّةٍ﴾ بيان لما فيهما على أن في السماء خلقا يدبون والملائكة، من عطف الخاص على العام للتفخيم أو بيان لما في الأرض ﴿وَالْمَلآئِكَةُ﴾ تعيين لما في السموات تفخيما وما لتغليب ما لا يعقل لكثرته ﴿وَهُمْ﴾ أي الملائكة ﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن عبادته.