3 - الظلال، المساكن، الأغطية:
ويشير القرآن الكريم إِلى نعمة أُخرى بقوله: (واللّه جعل لكم ممّا خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكناناً).
"الأكنان": جمع (كن) بمعنى وسائل التغطية والحفظ، ولهذا فقد أُطلقت على المغارات وأماكن الإِختفاء وفي الجبال.
ونرى إِطلاق كلمة "الظلال" في الآية لتشمل كل الظلال، سواء كانت ظلال الأشجار أو المغارات الجبلية أو ظل أي شيء آخر، باعتبارها إِحدى النعم الإِلهية (وحقيقة الأمر كذلك)، فكما يحتاج الإِنسان إِلى النّور في حياته فكثيراً ما يحتاج إِلى الظل كذلك، لأنّ النّور إذا ما استمر في اشراقه فسوف تكون الحياة مستحيلة، ويكفينا أن نلمس ما لظل الكرة الأرضية (والمسمى بالليل) على حياتنا، وكذلك دور الظلال الأُخرى خلال النهار في مختلف الأمكنة والحالات.
وكأن ذكر نعمة "الظلال" و"أكنان الجبال" بعد ذكر نعمة "المسكن" و"الخيام" في الآية السابقة، للإِشارة إِلى: أنّ طوائف الناس لا تخرج عن إِحدى ثلاثة... واحدة تعيش في المدن والقرى وتستفيد من بناء البيوت لسكناها، وأُخرى تعيش الترحال والتنقل فتحمل معها الخيام، وثالثة أُولئك الذين يسافرون وليس معهم مستلزمات المأوى... ولم يترك الباري جل شأنه المجموعة الثّالثة تعيش حالة الحيرة من أمرها، بل في طريقهم الظلال والمغارات لتقيهم.
وقد لا يدرك سكنة المدن ما لوجود المغارات الجبلية من أهمية، ولكنّ عابرى الصحاري والمسافرين العزل والرعاة وكل مَنْ حرم من نعمة البيوت الثابتة أو السيارة (مؤقتاً أو دائماً) عندما يكونون تحت سطوة حرارة الصيف اللاهبة أو تحت وطأة زمهرير الشتاء القارص، سيعرفون عندها أهمية تلك المغارات، وخصوصاً كونها باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، وهي ملاذ ينجي من موت قريب - في بعض الأحيان - للإِنسان أو الحيوانات.
وبعد ذكر القرآن الكريم لنعمة الظلال الطبيعية والصناعية، ينتقل لذكر ملابس الإنسان فيقول: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر)، وثمّة ألبسة أُخرى تستعمل لحفظ أبدانكم في الحروب (وسرابيل تقيكم بأسكم).
"السرابيل": جمع "سربال" (على وزن مثقال)، بمعنى الثوب من أيِّ جنس كان (على ما يقول الراغب في مفرداته)، ويؤيده في ذلك أكثر المفسّرين، ولكنّ البعض منهم قد اعتبر معنى السربال هو: لباس وغطاء لبدن الإِنسان، إِلاّ أنّ المشهور هو المعنى الأوّل.
وكما هو معلوم، فإِنّ فائدة الألبسة لا تنحصر في حفظ الإنسان من الحر والبرد، بل تُلْبِس الإنسان ثوب الكرامة وتقي بدنه من الأخطار الموجهة إِليه، فلو تعرى الإِنسان لكان أكثر عرضه للجراحات وما شابهها، واستناد الآية المباركة على الخاصية الأُولى دون غيرها لأهميتها المميزة.
ولعل ذكر خصوص الحر في الآية جاء تماشياً مع ما شاع في لغة العرب من ذكر أحد المتضادين اختصاراً، فيكون الثّاني واضحاً بقرينة وجود الأوّل، أو لأنّ المنطقة التي نزل فيها القرآن الكريم كان دفع الحرِّ فيها ذا أهمية بالغة عند أهلها.
وثمّة احتمال آخر: أنْ يكون ذلك بلحاظ خطورة الإِصابة بمرض ضربة الشمس المعروفة، وبتعبير آخر: إِنّ تحمل الإِنسان لحر أشعة الشمس الشديدة أقل من تحمله ومقاومته للبرد، لأنّ حرارة البدن الداخلية يمكن لها أن تعين الإِنسان على تحمل البرودة لحد ما.
وفي ذيل الآية... يقول القرآن مذكِّراً: (كذلك يتمّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون) أي تطيعون أمره.
وطبيعي جدّاً أن يفكر الإِنسان بخالق النعم، خصوصاً عند تنبّهه للنعم المختلفة التي تحيط بوجوده، وأنّ ضميره سيستيقظ ويتجه نحو المنعم قاصداً زيادة معرفته به إِذا ما امتلك أدنى درجات حسن الشكر.
ومع أنّ بعض المفسّرين قد حصروا لكلمة "النعمة" في الآية ببعض النعم: كنعمة الخلق، وتكامل العقل، أو التوحيد، أو نعمة وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلاّ أنّ معنى الكلمة أوسع من ذلك، ليشمل كل النعم (المذكور منها أو غير المذكور)، وما التخصيص في حقيقته إِلاّ من قبيل التّفسير بالمصداق الواضح.
﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ﴾ من الشجر والأبنية وغيرها ﴿ظِلاَلاً﴾ تقيكم حر الشمس جمع ظل ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾ كالكهوف والغيران جمع كن ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ﴾ قمصانا من النبات وغيره ﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ أي والبرد وخص بالذكر الأهم ﴿وَسَرَابِيلَ﴾ دروعا وجواشن ﴿تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾ حربكم أي الطعن والضرب ﴿كَذَلِكَ﴾ كما أنعم عليكم بهذه النعم ﴿يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ في الدنيا بتدبير أموركم ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ تتفكرون في نعمه فتوحدونه وتطيعونه.