لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وتتناول الآية أيضاً مسألة وجود الشهيد في كل أُمّة (والذي ذكر قبل آيات معدودة)، ولمزيد من التوضيح يقول القرآن الكريم: (ويوم نبعث في كل أُمّة شهيداً عليهم من أنفسهم). ووجود هؤلاء الشهود، وعلى الخصوص من الأشخاص الذين ينهضون لهذه المهمّة من وسط نفس الأمم، لا يتعارض مع علم اللّه تعالى وإِحاطته بكل شيء، بل هو للتأكيد على مراقبة أعمال الناس، وللتنبيه على وجود المراقبة الدائمة بشكل قطعي. ومع أنّ عموم الحكم في هذه الآية يشمل المجتمع الإِسلامي والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ القرآن الكريم في مقام التأكيد قال: (وجئنا بك شهيداً على هؤلاء). وقيل إِنّ المقصود ب- "هؤلاء" المسلمون الذين يعيشون في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الرقيب والناظر والشاهد على أعمالهم، ومن الطبيعي أن يكون ثمّة شخص آخر يأتي بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليكمل طريقه فيكون شهيداً على الأُمّة (وهو من وسطها)، وينبغي أن يكون طاهراً من كل ذنب وخطيئة، ليتمكن من إِعطاء الشهادة حقّها. ولهذا... اعتمد بعض المفسّرين (من علماء الشيعة والسنّة) على كون الآية بمثابة الدليل على وجود شاهد، حجّة، عادل، في كل عصر وزمان. وضرورة وجود الإِمام المعصوم في كل زمان، وهذا المنطق يتفق مع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) دون غيرهم من المذاهب الإِسلامية. ولعل لهذا السبب عرض الفخر الرازي في تفسيره عند مواجهته لهذا الإِشكال توجيهاً لا يخلو من إِشكال أيضاً حيث قال: (فحصل من هذا أن عصراً من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس، وذلك الشهيد لابدّ أن يكون غير جائز الخطاء وإِلاّ لافتقر إِلى شهيد آخر، ويمتد ذلك إِلى غير النهاية، وذلك باطل، فيثبت أنّه لابدّ في كل عصر من أقوام تقوم الحجّة بقولهم، وذلك يقتضي أن يكون إِجماع الأمّة حجّة)(4). لو أنّ الفخر الرازي تجاوز قليلا حدود عقائده لم يكن ليسقط في هكذا تناقض وعناد فاحش. لأنّ القرآن يقول: (يوم يبعث في كل أُمّة شهيداً عليهم من أنفسهم) وليس مجموع الأُمّة شاهداً على كل فرد من أفراد الأُمّة. وكما ذكرنا عند تفسيرنا للآية (41) من سورة النساء أنّ هناك احتمالين آخرين في تفسير "هؤلاء": الأوّل: أنّ "هؤلاء" إِشارة إِلى شهداء الأمم السابقة من الأنبياء (عليهم السلام) والأوصياء، فيكون النّبي شاهداً على هذه الأمة وشاهداً على الأنبياء السابقين أيضاً. الثّاني: المقصود من الشاهد هنا هو الشاهد العملي، أيْ: شخص يكون وجوده قدوة وميزاناً لتمييز الحق من الباطل. (والمزيد من الإِيضاح، راجع ذيل الآية (41) من سورة النساء). وبما أنّ جعل الشاهد فرع لوجود برنامج كامل وجامع للناس بما تتم فيه الحجّة عليهم، ويصح فيه مفهوم النظارة والمراقبة، لذا يقول القرآن بعد ذلك مباشرة: (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلَّ شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين). بحثان 1 - القرآن تبيان لكل شيء: من أهم ما تطرقت له الآيات المباركات هو أنّ القرآن مبين لكل شيء. "تبيان" (بكسر التاء أو فتحها) له معنىً مصدري(5)، ويمكن الإِستدلال بوضوح على كون القرآن بياناً لكل شيء من خلال ملاحظة سعة مفهوم "كل شيء"، ولكنْ بملاحظة أن القرآن كتاب تربية وهداية للإِنسان وقد نزل للوصول بالفرد والمجتمع - على كافة الأصعدة المادية والمعنوية - إِلى حال التكامل والرقي، يتّضح لنا أنّ المقصود من "كل شيء" هو كل الأُمور اللازمة للوصول إِلى طريق التكامل، والقرآن ليس بدائرة معارف كبيرة وحاوية لكل جزئيات العلوم الرياضية والجغرافية والكيميائية والفيزيائية... الخ، وإِنّما القرآن دعوة حق لبناء الإِنسان، وصحيح أنّه وجه دعوته للناس لتحصيل كل ما يحتاجونه من العلوم، وصحيح أيضاً أنّه قد كشف الستار عن الكثير من الأجزاء الحساسة في جوانب علمية مختلفة ضمن بحوثه التوحيدية والتربية، ولكنْ ليس ذلك الكشف هو المراد، وإِنّما توجيه الناس نحو التوحيد والتربية الربانية التي توصل الإِنسان إِلى شاطيء السعادة الحقة من خلال الوصول لرضوانه سبحانه. ويشير القرآن الكريم تارةً إِلى جزئيات الأُمور والمسائل، كما في بيانه لأحكم كتابة العقود التجارية وسندات القرض، حيث ذكر (18) حكماً في أطول أية قرآنية وهي الآية (282) من سورة البقرة(6). وتارةً أُخرى يعرض القرآن المسائل الحياتية للإِنسان بصورها الكلية، كما في الآية التي ستأتي قريباً، حيث يقول: (إِنّ اللّه يأمر بالعدل والإِحسان وإِيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي). وكذلك عموم مفهوم الوفاء بالعهد في الآية (34) منسورة الإِسراء: (إِنّ العهد كان مسؤولا)، وعموم مفهوم الوفاء بالعقد في الآية الأُولى من سورة المائدة: (أوفوا بالعقود)، ولزوم أداء حق الجهاد كما جاء في الآية (78) من سورة الحج: (وجاهدوا في اللّه حق جهاده) وكمفهوم إِقامة القسط والعدل كما جاء في الآية (45) من سورة الحديد: (ليقوم الناس بالقسط)، وعموم مفهوم رعاية النظم في كل الأُمور في الآيات (7 ، 8 ، 9) من سورة الرحمن: (والسماء رفعها ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)وعموم مفهوم الإِمتناع عن فعل الفساد في الأرض كما في الآية (85) من سورة الأعراف: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إِصلاحها)، بالإِضافة إِلى الدعوة للتدبر والتفكر والتعقل التي وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم، وأمثال هذه التوجيهات العامة كثيرة في القرآن، لتكون للإِنسان نبراساً وهاجاً في كافة مجالات الفكر والحياة والإِنسان... وكل ذلك يدلل بما لا يقبل التردد أو الشك على أنّ القرآن الكريم (فيه تبيان لكل شيء). بل وحتى فروع هذه الأوامر الكلية لم يهملها الباري سبحانه، وإِنّما عيّن لها مَنْ يؤخذ منه التفاصيل، كما تبيّن لنا ذلك الآية (رقم 7) من سورة الحشر: (وما أتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). والإِنسان كلما سبح في بحر القرآن الكريم وتوغّل في أعماقه، واستخرج برامجاً وتوجيهات توصله إِلى السعادة، اتّضحت له عظمة هذا الكتاب السماوي وشموله. ولهذا، فَمَنْ استجدى القوانين من ذا وذاك وترك القرآن، فهو لم يعرف القرآن، وطلب من الغير ما هو موجود عنده. وإِضافةً لتشخيص الآية المباركة مسألة أصالة واستقلال تعاليم الإِسلام في كل الأُمور، فقد حَمَّلَتْ المسلمين مسؤولية البحث والدراسة في القرآن الكريم باستمرار ليتوصلوا لا ستخراج كل ما يحتاجونه. وقد أكّدت الرّوايات الكثيرة على مسألة شمول القرآن ضمن تطرقها لهذه الآية وما شابهها من آيات. منها: ما روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "إِنّ اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى واللّه ما ترك شيئاً تحتاج إِليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إِلاّ وقد أنزله اللّه فيه"(7). وفي رواية أُخرى عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: "إِنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إِليه الأُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلا يدل عليه، وجعل على مَنْ تعدى ذلك الحد حداً"(8). وجاء في الرّوايات الشريفة الإِشارة الى هذه المسألة أيضاً. وهي أنّه مضافاً الى ظواهر القرآن وما يفهمه منها العلماء وسائر الناس، فإنّ باطن القرآن بمثابة البحر الذي لا يدرك غوره، وفيه من المسائل والعلوم ما لا يدركها إلاّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأوصياؤه بالحق، ومن هذه الرّوايات ما ورد عن الإِمام الصادق(عليه السلام)أنّه قال: "ما مِنْ أمر يختلف فيه اثنان إِلاّ وله أصل في كتاب اللّه عزَّ وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال"(9). إِن عدم إِدراك العامة لهذا القسم من العلوم القرآنية الذي يمكننا تشبيهه بـ(عالم اللاشعور) لا يمنع من التحرك في ضوء (عالم الشعور) وعلى ضوء ظاهرة والإِستفادة منه. 2 - مراحل الهداية الأربع إِنّ الآية أعلاه ذكرت أربعة تعابير متلازمة حسب تسلسلها لتوضيح الهدف من نزول القرآن: 1 - تبياناً لكل شيء. 2 - هدى. 3 - رحمة. 4 - بشرى للمسلمين. ولو أمعنا النظر لوجدنا ثمّة ارتباطاً منطقياً واضحاً بين هذه التعابير، فكلُّ منها يرمز إِلى مرحلة معينة، المرحلة الأُولى في مسير الهداية تستلزم البيان والتعليم، وبعدها تأتي مرحلة الهداية، ومن ثمّ تأتي العمل الموجب للرحمة، وأخيراً البشرى بثواب اللّه لمن آمن وعمل صالحاً وسرور جميع السائرين على طريق الحق. ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ هو نبيهم أو إمام زمانهم ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد ﴿شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء﴾ أي أمتك شهيدا قال الصادق (عليه السلام) نزلت في أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) خاصة في كل قرن منهم إمام منا شاهد عليهم ومحمد شاهد علينا ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآن ﴿تِبْيَانًا﴾ بيانا ﴿لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ من أمور الدين تفصيلا أو إجمالا محالا إلى الحجة المقرون به ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾.