وحيث أنّ الوفاء بالعهد أهم الأُسس في ثبات أيّ مجتمع كان، تواصل الآية التالية ذكره بأُسلوب يتسم بنوع من اللوم والتوبيخ، فتقول: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً)(1).
والآية تشير إِلى (رايطة) تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهلية، وكانت هي وعاملاتها يعملن من الصباح حتى منتصف النهار في غزل ما عندهن من الصوف والشعر، وبعد أن ينتهين من عملهن تأمرهن بنقض ما غزلن، ولهذا عرفت بين قومها ب- (الحمقاء).
فما كانت تقوم به (رايطة) لا يمثل عملا بالا ثمر - فحسب - بل هو الحماقة بعينها، وكذا الحال بالنسبة لمن يبرم عهداً مع اللّه وباسمه، ثمّ يعمل على نقضه، فهو ليس بعابث فقط، وإِنّما هو دليل على انحطاطه وسقوط شخصيته.
ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا: (تتخذون أيمانكم دَخَلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أُمّة)(2)، أي لا تنقضوا عهودكم مع اللّه بسبب أنّ تلك المجموعة أكبر من هذه فتقعوا في الخيانة الفساد.
وهذا دليل على ضعف شخصية الفرد، أو نفاقه وخيانته حينما يرى كثرة أتباع المخالفين فيترك دينه القويم وينخرط في المسالك الباطلة التي يتبعها الأكثرية.
واعلموا (إِنّما يبلوكم اللّه به).
واليوم الذي تكونون فيه كثرة وأعداءكم قلة ليس بيوم اختبار وامتحان، بل امتحانكم في ذلك اليوم الذي يقف فيه عدوكم أمامكم وهو يزيدكم عدداً بأضعاف مضاعفة وأنتم قلّة.
وعلى أية حال... ستتّضح النتيجة في الآخرة ليلاقي كل فرد جزاءه العادل: (وليبينّن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) من هذا الأمر وغيره.
﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ ما غزلته ﴿مِن بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ إحكام له وفتل ﴿أَنكَاثًا﴾ حال أو مفعول ثان لنقضت جمع نكث وهو ما ينكث فتله ومعناه تشبيه الناقض بمن فعلت ذلك أو بريطة بنت عمرو القرشية وكانت خرفاء هذا شأنها ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً﴾ غدرا ومكرا وهو ما يدخل في الشيء للفساد ﴿بَيْنَكُمْ أَن﴾ أي لأن ﴿تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ جماعة هي أكثر من جماعة كانوا إذا رأوا في أعادي حلفائهم شوكة نقضوا عهدهم وخالفوا أعاديهم فنهوا عنه ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ﴾ يختبركم بالأمر بالوفاء أو بكونهم أربى لينظر أتفون لله مع قلة المؤمنين أم تغدرون لكثرة قريش ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ بإثابة المحق وتعذيب المبطل.